الحديث هل هو في صفة صلاة المريض، أم هو في النافلة؟ يحتمل هذا وهذا، فيحتمل أن يكون المقصود في صلاة المرض، أنه إن استطاع صلى قائماً، فإن عجز صلى قاعداً، فإن عجز صلى مضجعاً أو نائماً، كما قال صلى الله عليه وسلم، والدليل على أن هذا هو المقصود من الحديث هو قوله: {فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب} فهذا دليل على أن الأمر مقرون بالاستطاعة، وأن الحديث جاء في شأن المريض.
وأيضاً: من الأدلة على أن هذا في شأن المريض: قوله: وكان مبسوراً، هذا قد يستدل به، وإن كان المبسور قد عجز عن القيام، وقد يكون مستطيعاً للقيام، فقالوا: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم أن يكون لنفسه، فقد يكون سأل لنفسه أو لغيره.
الدليل ثالث: قوله: {فعلى جَنْب} لأن هذا يدل على أن الإنسان يصلي على جنبه، والنافلة لا تصلى على جنب، ولهذا قال الخطابي رحمه الله قال: لا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه رخص في ذلك، أي في كون الإنسان يتنفل على جنبه وهو قادر على القعود وعلى القيام.
إذاً يبقى عندنا إشكال، ما دام أن الحديث في المريض! كيف نحمل رواية البخاري في نفس حديث الباب؟ فقد قال فيه: من صلى قائماً فهو أفضل، فكيف يحمل هذا الحديث على المريض ير المستطيع، وقد خوطب بقوله: من صلى قائماً فهو أفضل، فيجاب عن هذا الإشكال، إذا قلنا: بأن المقصود بالحديث المريض، فنقول: إن هذا في المريض الذي يستطيع أن الوقوف، ولكن يلحقه من القيام مشقة كبيرة، ولكنه يمكن أن يقوم ويتحامل ويصلي قائماً، فيكون قيامه أفضل، ولو قعد أجزاءه ذلك.
فهذا هو الجواب، وهذا هو الذي رجحه الخطابي في توجيه الحديث، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وهو حمل متجه، ثم قال: ويؤيده صنيع البخاري حيث أدخل في الباب حديثي أنس بن مالك وعائشة وهما في صلاة المفترض قطعاً، قال: فمن صلى فرضاً قاعداً، وكان يشق عليه القيام أجزأه، وكان هو ومن صلى قائماً سواء.
إذاً هذا فيمن يستطيع أن يقوم، ولكن يشق عليه القيام، ولو تحامل هذا المعذور على القيام مع المشقة كان أفضل لمزيد أجر تكلفه القيام، أيضاً لمن يشق عليه القعود، فنام وصلى وهو مضطجع، وهو يستطيع أن يقعد لكن يشق عليه.
ومما يرجح ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك قال: {قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهي محمة، -أي: مصابة بالحمى- فحم الناس فدخل النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون في المسجد من قعود، فقال: صلاة القاعد نصف صلاة القائم} فهؤلاء الناس الآن الذين دخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مصابين بالحمى، فصلوا قعوداً من الحمى، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {صلاة القاعد نصف صلاة القائم} وهذا الحديث الذي رواه أحمد، قال فيه الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات، وله طريقين أخرى عند النسائي.
هذا الوجه الأول: أن يكون الحديث محمول على صلاة الفرض للمريض، ويكون قوله: أفضل في حق من يستطيع القيام بمشقة فصلى قاعداً، أو في حق من يستطيع القعود بمشقة فصلى مضجعاً.
احتمال آخر: بعض أهل العلم حملوا الحديث على صلاة النافلة، قالوا: الحديث جاء في صلاة النافلة، وهذا الوجه حكاه ابن التين وغيره عن جماعة من أهل العلم كـ أبي عبيد، وابن الماجشون من فقهاء المالكية، وإسماعيل القاضي، والإسماعيلي صاحب المستخرج والداودي وغيرهم، وكذلك نقله الإمام الترمذي في سننه عن الثوري، أنهم حملوا الحديث على صلاة النافلة، وقالوا: إن الإنسان إذا تنفل قائماً كان أفضل، فإن تنفل قاعداً أجزأه ذلك، وله نصف الأجر.
وعلى احتمال أن الحديث في النافلة، فإنه يدل على أن الإنسان يجوز له أن يصلي النافلة، وهو مضطجع كما ذكرت، والنائم ليس المقصود به النائم الذي غاب عن وعيه، لكن المقصود المضطجع كما فسره البخاري رحمه الله، قال: نائم عندي هاهنا أي: مضطجعاً.
وهو يدل على ما ذكرناه أنه جاء في النافلة على أنه يجوز للإنسان أن يصلي وهو مضطجع، وهذا وإن قال الخطابي -كما سبق-: أنه لا يحفظ عن أحد من أهل العلم، إلا أنه جاء عن بعضهم، فقد نقله الترمذي بإسناده إلى الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: [[إن شاء الرجل صلى صلاة التطوع جالساً، وقائماً، ومضطجعاً]] .
فهذا مذهب الحسن البصري، وهو مذهب جماعة من أهل العلم، بل هو أحد الوجهين عند الشافعية، وصححه المتأخرون منهم، وحكاه القاضي عياض وجهاً عند المالكية، وهو اختيار الأبهري وغيره، واحتجوا لهذا المذهب بهذا الحديث.
والوجه الأول أن المقصود بالحديث صلاة الفريضة أقوى وأشهر وأولى، والله تعالى أعلم.