الفائدة الثالثة: فائدة تتعلق بصفة الصلاة

ومن أهم فوائد حديث الباب -حديث مالك بن الحويرث - ما يتعلق بصفة الصلاة، ولذلك ساقه المصنف هنا، في قوله: {صلوا كما رأيتموني أصلي} وذلك إن قوله: {صلوا كما رأيتموني أصلي} دليلٌ لجماعة من أهل العلم على أن كل ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من صفة الصلاة، فالأصل فيه أنه واجب، مالم يوجد صارف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن نصلي كما رأيناه يصلي، ولأنه فعل والقول يتبعه {صلوا كما رأيتموني أصلي} .

وقد تكلم الإمام الحافظ الأصولي الكبير ابن دقيق العيد في إحكام الإحكام عن هذه المسألة بكلام محررٍ جزل، خلاصته أنه يقول: إن هذا الخطاب في الحديث إنما وقع لـ مالك بن الحويرث وأصحابه، بأن يوقع الصلاة على الوجه الذي رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يصليه، قال رحمه الله: نعم يشاركهم في الحكم جميع الأمة بشرط أن يثبت استمراره صلى الله عليه وسلم على فعل ذلك الشيء المستدل دائماً حتى يدخل تحت الأمر ويكون واجباً.

إذاً: ابن دقيق العيد أضاف شرطاً حتى نقول بوجوب الفعل، وهو ليس أن يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ولو مرة واحدة، بل لا بد أن يكون نقل عنه استمراره صلى الله عليه وسلم على ذلك الفعل، ومن المعلوم أن مجرد الاستمرار بذاته لا يدل على الوجوب، لكن لما أضيف إليه حديث مالك بن الحويرث: {صلوا كما رأيتموني أصلي} دل هذا على أنه خطاب لجميع الأمة، دل على أن هذا الفعل الذي داوم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه واجب.

وبعض الأفعال مقطوع باستمرار النبي صلى الله عليه وسلم عليها، أما ما لم يدل دليل على وجوبه في تلك الصلاة التي رآها مالك بن الحويرث وأصحابه، وتعلق الأمر بإيقاع الصفة على ضوئها، فإنه لا يمكن الحكم بتناول الأمر له، أي: نحن لا ندري ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم من الصلوات فرآه مالك بن الحويرث؟ وماذا ترك؟ فنقول: إن الأمر متعلق بتلك الصلاة التي وقع الأمر بالصلاة على مثلها، فإذا رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في تلك الصلاة صفة ولم يتركها عرفنا أن هذا واجب، أما ما سوى ذلك، فنقول: إن فعل النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الاستحباب ما لم يوجد دليل إضافي على الوجوب، ولا نقول: بأن كل فعل فعله النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة واجب، إلا إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم داوم عليه واستمر.

هذا خلاصة ما قرره الإمام الحافظ ابن دقيق العيد، وهو وجيه.

يبقى هاهنا إشكال: فقد سبق معنا أن مالك بن الحويرث ذكر قعود النبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان في وتر من صلاته، وهو ما يسمى عند الفقهاء بجلسة الاستراحة، فكيف نخرج جلسة الاستراحة من هذا التقرير الذي قرره ابن دقيق العيد، لأننا نعلم أن مالك بن الحويرث رضي الله عنه ومن معه رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يجلس جلسة الاستراحة.

إذاً نقول: هذا من الصلاة التي وقع الأمر بمشابهتها {صلوا كما رأيتموني أصلي} رأيناه يصلي فيجلس جلسة الاستراحة، هكذا نقل لنا مالك بن الحويرث، فما الذي أخرج جلسة الاستراحة عن الوجوب؟

صلى الله عليه وسلم هو عدم الاستمرار عليها وكيف عرفنا عدم الاستمرار؟ على كل حال بدل من أن ندخل في التفاصيل فقد سبق معنا ثلاثة أحاديث: حديث أبي هريرة، وحديث مالك بن الحويرث، وحديث وائل بن حجر في جلسة الاستراحة، وذكرنا في التقرير آنذاك أن هذه الأحاديث وغيرها، جاء فيها ذكر الجلسة، وجاء فيها السكوت عنها، وجاء فيها نفيها.

ولعله لم ينقل جلسة الاستراحة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هؤلاء، فلو كان يحافظ عليها لنقلت نقلاً مشهوراً عن جماعة آخرين من الصحابة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015