إذاً كنت أيها الإنسان في أمر دنياك مفتقر إلى الله! فأنت في طفولتك ضعيف، ثم في شبابك معرض للمرض، ومعرض للموت، وإذا سلمت من المرض أو الموت فأنت صائر إلى مرحلة الكهولة ثم الشيخوخة ثم الهرم! وهي مرحلة ضعف يرجع فيها الإنسان إلى صورة ربما تكون في كثير من الأحيان أشد ضعفاً من الصورة التي كان يعانيها الإنسان في طفولته، فأنت في دنياك مفتقر إلى الله عز وجل وأنت في دينك أيضاً مفتقر إلى الله عز وجل، فأنت معرض للمعصية، فإن سلمت منها فأنت معرض للعجب، فإن سلمت منها فأنت معرض للتقصير أو لابد لك أصلاً من التقصير، ولا يمكن أن تقوم بكل الواجبات المنوطة بك وعبادة الله حق عبادته، ثم أنت معرض لأن يختم لك بسوء، ثم أنت بعد هذا كله لا يدرى ماذا يكون حالك بعد الموت، وما يدرى ما يفعل بك بين يدي الله عز وجل.
وإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك، فإن سائلاً يسأل: كيف لٍلإنسان أن يتخلص من هذا الفقر؟ إذا كان الواحد منا فقيراً حتى وهو يتقلب في النعيم، ويملك الأموال الطائلة، ويتربع على العروش، فهو فقير شاء أم أبى، فما هو السبيل الذي يجعل الإنسان يفر من هذا الفقر؟ السبيل هو التقوى والقرب من الله عز وجل والفرار إليه، ولذلك قال الله عز وجل مخاطباً لنا: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] .
فكل شيء تخافه فأنت تفر منه إلا الله عز وجل فأنت تخافه فتفر إليه، فإذا كنت تعلم أن الله عز وجل متصف بصفات الكمال المطلق، والغنى المطلق، وأنت متصف بالفقر والحاجة، فلا انفكاك لك من هذا الفقر إلا بالفرار إلى الله عز وجل فهو الذي يملك الكمال المطلق، وهو الذي من لاذ به واقترب منه منحه عز وجل من الكمال والقوة مالا يكون له في حساب، ولا يخطر له على بال، لذلك تجدون الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ثم أتباع الأنبياء الصادقين، تجدونهم أقوى الناس في الصبر على ما يواجهونه من مصائب الدنيا، وأقوى الناس في الصبر على ما يواجهونه في أمور الدين ويتحملونه في سبيل الله.
فعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت له: {يا رسول الله! ما أشد ما لقيت من قومك؟ أي: ما هو أشد موقف مر بك من قومك، فذكر لها النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام فآذوه وردوه، وقالوا له قولاً سيئاً، فخرج صلى الله عليه وسلم على وجهه مهموماً فلم يستفق إلا وهو بقرن الثعالب، وهو لعله موضع بمنى قرب العقبة، لم يستفق إلا وهو بقرن الثعالب، قال صلى الله عليه وسلم: فإذا سحابة قد أظلتني، فنزل منها ملكان جبريل وملك آخر، فسلم علي جبريل، وقال: يا محمد! إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، فبعثني إليك وهذا ملك الجبال، فمره بما شئت، فسلم عليه ملك الجبال، وقال: يا محمد! إن الله سمع قول قومك لك، فمرني بما شئت، والله إن شئت لأطبق عليهم الأخشبين، وهما الجبلان المحيطان بمكة، فانظروا صلابة النبي صلى الله عليه وسلم وهو في هذا الموقف الذي خرج مهموماً على وجهه حتى لم يستفق إلا وهو في قرن الثعالب، قال صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً} .
وروى عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن مسعود: كأني انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، نبي اختاره ملك الملوك من السماء لينزل الوحي عليه، فيصل الحال بالسفهاء إلى أن يضربوه ويخرجوا الدم منه، فهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} ربما كان يخاف على قومه أن ينزل عليهم العذاب من السماء، فهو يسترحم الله عز وجل لقومه، ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
وهكذا كان أصحاب الأنبياء، وهكذا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أشد الناس صبراً على اللأواء والبلواء التي تصيبهم، سواء في أمر دنياهم أم في أمر دينهم، ولا يتسع المجال لذكر بعض النماذج التي مروا بها، وعانوها وصبروا عليها، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه من القوة والصبر والكمال.
أسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم في الصالحين، وأن يثبتنا وإياكم بقوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأرجو ألا أكون قد أطلت عليكم، وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.