مواقف من سيرته

وقبل أن أذكر الكتاب أحب أن أشير إلى موقفين أعجباني في سيرة هذا الإمام العظيم، يقول بعض مترجميه: إن السلاطين كانوا يهتمون به، ويكرمون وفادته، ويزورونه في منزله، حتى آلت النوبة إلى رجلٍ منهم اسمه: نور الدين شاه، فكان حاكماً في تلك النواحي، فكان يأتي إلى الإمام مجد الدين في منزله ويزوره ويستشيره، فعرض عليه الوزارة وألح عليه أن يكون وزيراً يفوض إليه تنفيذ الأمور والأحكام والأقضية وغيرها، فاعتذر ابن الأثير، فألح عليه نور الدين حتى أنه غضب عليه، فقال له ابن الأثير: إني رجلٌ قد ضيعت وبذلت أكثر عمري في طلب العلم والحديث، ولو أنني اشتغلت بالوزارة وتولي الأمور التنفيذية لما استطعت أن أقوم بها على الوجه المطلوب، ولخشيتُ أن يداخلني في ذلك شيءٌ من الظلم والعسف الذي قد يتصور بعض الناس أن الوزارة لا تقوم إلا به، فاستعفاه وأصر عليه حتى أعفاه من ذلك.

الموقف الثاني: أنه لما كبُر سنه -رحمه الله- أصيب بنوع من الشلل في أطرافه، فجاءه طبيبٌ من المغرب، وصار يعالجه بعلاجاتٍ وأدهانٍ وأدوية حتى بدأت تنفع فيه هذه العلاجات، وظهر أثرها وبدأ يحرك أطرافه، وكان القائم على علاجه أخوه -هذا الطبيب يعالجه وأخوه كان قائماً على شئونه- فقال الإمام ابن الأثير لأخيه: أعط هذا الطبيب ما تيسر من المال وأجِزْه -يعني أعطه جائزةً واصرفه عنا- فتعجب أخوه من هذا، فقال: ما السر في ذلك الآن؛ وبوادر الشفاء قد ظهرت فيك؟ فلم تطلب أن أصرف الطبيب؟ قال: لأني رأيت في هذا المرض خيراً، حيث أني أصبحت معذوراً عن زيارة السلاطين -أي أنهم لا يتطلعون أن يزورهم لأنه مقعدٌ مشلول- وسلمت من القعود معهم، والذل بين أيديهم، وانقطعت للعلم والعبادة فوجدت لذلك لذةً عظيمة، ولست بحاجةٍ إلى أن أنغص عيشي معهم مرةً أخرى، فوافق أخوه على طلبه، وصرف هذا الطبيب عنه، رحمه الله ورضي عنه وأرضاه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015