أما كيف يسوق ابن الأثير الأحاديث؟ أي كيف يختار للحديث موضوعاً؟ فبعض الأحاديث تكون في موضوعٍ واحد، بحيث يكون ظاهر أن الحديث في الطهارة أو الصلاة أو الزكاة بحيث أنَّ أي إنسانٍ عندما يتأمل الحديث يجده في هذا الموضوع.
فمثلاً سبق معنا في دروس بلوغ المرام حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الماء طهورٌ لا ينجسه شيء} لو أردت أن تبحث عن هذا الحديث في جامع الأصول -وجامع الأصول ليس بكتاب أصلي، لكن تبحث فيه ليدلك على الكتب الأخرى- فإنك ستجده في باب الطهارة، ولا يحتمل أن يوجد هذا الحديث في بابٍ آخر لأنه يتعلق بالطهارة والمياه.
إذاً هذا الحديث يضعه في كتاب الطهارة، وكتاب الطهارة في حرف الطاء.
لكن أفترض أن الحديث الأول الذي قبله، في الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه الحل ميتته} فهذا الحديث يحتملُ بابين، أولهما الطهارة، لقوله: {هو الطهور ماؤه} والثاني في باب الأطعمة لأنه تكلم عن الطعام، وهو أن ميتة البحر حلال، والأغلب أن يضع الحديث في باب الطهارة لأن الكلام عن الطعام إنما جاء تبعاً وليس استقلالاً.
وعليه فإذا كان الحديث يحتمل أكثر من موضوع، فإنه يلحقه بأقرب الموضوعات وألصقها بالحديث، وأحياناًَ قد يحتمل الحديث معاني كثيرة جداً لا يمكن إلحاقه بشيءٍ منها، وذلك مثل بعض خطب النبي صلى الله عليه وسلم التي يتحدث فيها عن موضوعات كثيرة، وأذكر منها -على سبيل المثال- الحديث الذي رواه عياض بن حمار المجاشعي في صحيح مسلم قال: {قال رسول الله صلى الله وسلم: قال الله تعالى: إني خلقت عبادي كلهم حنفاء، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله تعالى أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت يا رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزةً، فقال الله عز وجل: أغزهم نُغزِك، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وابعث جيشاً نبعث عشرةً مثله، وإن الله آتاني كتاباً لا يغسله الماء أقرأه نائماً ويقظان الحديث} .
فالحديث مشتملٌ على موضوعاتِ عديدة يصعب على المتأمل -على رغم كثرة فوائد الحديث- أن يصنفه في موضعٍ خاص، فهذا النوع جعل له ابن الأثير في آخر الكتاب حيزاً ضيقاً خاصاً باللواحق، وهي الأحاديث التي لا تندرج تحت موضوع معين، وهي موجودةٌ في آخر الجزء الحادي عشر من المطبوع.
أما بالنسبة للحديث الخاص كيف يورده، فإن ابن الأثير أولاً يورد رموز من أخرجوا الحديث، وقد رمز للبخاري بالخاء، ولـ مسلم بالميم، ولـ مالك في الموطأ بالطاء، ولـ أبي داود بالدال، وللنسائي بالسين، وللترمذي بالتاء، فيذكر هذه الرموز في صدر الحديث، ومع ذلك يصرح بها أثناء سياق الحديث، وهذا مبالغة في الدقة والتحري؛ فهو يذكرها على أنها رموزٌ في أول الحديث، ثم يصرح بها أثناء الحديث.
وهو يسوق صحابي الحديث فقط دون أن يُعنى بذكر الإسناد، ثم يسوق متن الحديث، ويُعنى عنايةً خاصة بألفاظ الصحيحين - البخاري ومسلم - ثم يسوق بعدها ألفاظ الكتب الأخرى , وفي روايةٍ، وفي روايةٍ، وفي روايةٍ حتى ينتهي منها، فإذا انتهى من الموضوع ذكر معاني الكلمات، لكن الذين طبعوا الكتاب أحسنوا فجعلوا معاني الكلمات لكلَّ حديثٍ بعده مباشرةً، وهذا أفضل، فبعد أن ينتهي من الحديث برواياته يذكر غريب الحديث، فيشير إلى المعاني التي تحتاج إلى شرحِ أو ينقلها من أئمة اللغة، فإذا لم يجد لأئمة اللغة فيها كلاماً قال باجتهاده بعد استشارة العلماء.
وأشير إلى أن ابن الأثير له كتابٌ في غريب الحديث مشهورٌ مطبوعٌ في خمسة مجلدات واسمه: النهاية في غريب الحديث والأثر وهو من أجمع كتب الغريب.
فهذه باختصار طريقة ابن الأثير.
والذين حققوا الكتاب قاموا بعمل جيد وخاصةً في الطبعة الأخيرة التي قام عليها الشيخ: عبد القادر الأرنؤوط حيث أنهم طبعوا الكتاب على نسختين خطيتين، وكذلك أرجعوا الأحاديث وعزوها إلى مصادرها بالرقم وبالجزء والصفحة، وتكلموا عن الأحاديث تصحيحاً أو تضعيفاً، وإن كانوا يتسامحون في تصحيح الأحاديث؛ لكنهم بذلوا في ذلك جهداً طيباً في تصحيح الأحاديث أو تحسينها أو تضعيفها والكلام عليها، فهذه أبرز الأشياء التي يمكن أن أقولها حول ابن الأثير في جامع الأصول وطريقة الاستفادة من هذا الكتاب.