النقد يعيد للإنسان اعتباره

إذاً النقد هو: الكشف الطبي المتواصل، الذي يكتشف الخطر أو المرض بسرعة، وبالتالي يبادر إلى العلاج قبل أن يتمادى المرض، ويصل إلى مرحلة الخطر أو فقدان الأمل في العلاج، ولذلك لابد من النقد.

والنقد أيضاً أيها الإخوة مشاركة حقيقية منك أنت في عملية الإصلاح، بحيث يصبح كل فرد في المجتمع له دوره وله مجاله، ولا يغدو الناس مجرد قطعان تساق إلى حتفها، وهي لا تشعر ولا تعي.

إن النقد احتفاظ بإنسانية الإنسان، حيث يُقال له: يا فلان، تأمل وانظر واعمل وأعمل عقلك، وراجع ما تعرفه أنت من نصوص الشرع، ونصوص الكتاب والسنة، وإذا وجدت أمراً لا يليق من الناحية الشرعية، أو العقلية، أو من ناحية المصلحة، فإياك أن تسكت على هذا الخطأ، وعليك أن تُبلغ، ولتعلم أنك إن سكت على هذا الخطأ، فأنت شريك في الإثم.

أو بمعنىً آخر: أنت شريك في جريمة السكوت على هذا الخطأ، والساكت عن الحق شيطان أخرس.

لقد صنع الإسلام رجالاً كان أقلهم يرى أنه قوي في تغيير المنكر وإنكاره، وفي إقرار الحق والأمر به.

وأضرب لكم مثلاً متناقضاً يدلكم على الفرق البعيد بيننا الآن، وبين الأجيال الأولى: بلال بن رباح رضي الله عنه كان عبداً أسود حبشياً في مكة، ليس له قيمة، يباع بالدرهم والدينار، فلما أسلم نُفخت فيه روح العزة والكرامة، والقوة والرجولة، فشعر أنه هو شخصياً ممن يقومون بتثبيت دعائم الإسلام، والدعوة إليه، والصبر والمقاومة، ولذلك كان يُعذب بمكة، ويوضع في حرِّ الرمضاء، وهو يقول: [[أحد أحد، أحد أحد]] حتى في بعض كتب السيرة، أنه كان يقول: [[والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم من هذه لقلتها]] فوقف في وجه الطواغيت والظالمين والمتسلطين، والذين يفتتنون الناس عن دينهم، وصبر حتى فرج الله تعالى عنه، ولم يقل: أنا عبد مسكين، كيف أقف أمام أبي جهل وأبي لهب وعتبة وشيبة وفلان وفلان، من عليا القوم وزعمائهم ورؤسائهم.

وقف بصبره وإيمانه، وأن قلبه لا سبيل لهم إليه، فكان يقول: أحد أحد، حتى مر به ورقة بن نوفل، وكان يقول: "نعم يا بلال أحد أحد، والله لئن قتلتموه لأتخذن قبره حناناً" كما جاء في بعض الروايات إن صحت.

هذا بلال نموذج للمسلم الأول.

لكن خذ نموذجاً للمسلم المعاصر، هل تدري أن الاستعمار كان يستخدم المسلمين في احتلال بلاد المسلمين، ففرنسا -مثلاً- كانت تستخدم المسلمين في سوريا وفي الجزائر في مقاومة المسلمين، وضرب المسلمين، وفي تدعيم مكانتها في تلك البلاد مع الأسف الشديد، بل إنك تجد أن التعذيب والاضطهاد، والقتل، والابتزاز، وألوان وصنوف الأذى، التي لقيها الدعاة والعلماء والمجاهدون في العديد من بلاد الإسلام، أنها ما كانت تتم على أيدي يهود ولا نصارى، إنما كانت تتم على أيدي أناس يحملون أسماء محمد وأحمد وعلي وصالح، وفلان وفلان من الأسماء الإسلامية، وقد تجد أحياناً من بينهم من يكون مصلياً، أو صائماً، أو غير ذلك، وليس بغريب أن الأداة التي يستخدمها الطغاة في كل زمان ومكان، في ملاحقة المسلمين والدعاة وطلبة العلم، ومحاربتهم، وكتم أنفاسهم، والتجسس عليهم، وإيذائهم في أنفسهم وفي بيوتهم وفي أرزاقهم، وفي وظائفهم، وفي أعمالهم، ومتابعة ماذا يقولون، وماذا يفعلون، وبمن يجتمعون، وكيف يجتمعون، ومتى يفترقون إلخ.

إن هؤلاء أناس قد يكونون من رواد المساجد أحياناً، وقد يكونون من المصلين، أو ممن يحضرون الحلقات العلمية والدروس لهذا الغرض أو ذاك، ورُبما ترامى إلى مسامع بعضكم تلك القصيدة الشهيرة، قصيدة الشاعر: هاشم الرفاعي، التي كان يتحدث فيها عن صورة السجن والسجان، وما هي صفته، فكان يقول: والصمت يقطعه رنين سلاسلٍ عبثت بهن أصابع السجان ما بين آونة تمر وأختها يرنو إلي بمقلتي شيطان من كوة بالباب يرقب صيده ويعود في أمن إلى الدوران أنا لا أحس بأي حقد نحوه ماذا جنى فتمسه أضغاني ويخاطب أباه فيقول: هو طيب الأخلاق مثلك يا أبي لم يبد في ظمأ إلى العدوان فلربما وهو المروِّع سحنة لو كان مثلي شاعراً لرثاني أو عاد من يدري إلى أولاده يوماً تذكر صورتي فبكاني لكنه إن نام عني لحظةً ذاق العيالُ مرارة الحرمان إذاً هو من المرتزقة هذا المسلم المعاصر، فقد معنى انتماءه للإسلام، معنى إحساسه بالولاء للمسلمين، معنى حبه لله وللرسول وللمؤمنين، فصار مستعداً أن يذبح دينه على عتبة المصالح الدنيوية، أو الوظيفة، أو المال، أو الدنيا، أو على عتبة المرتبات والبدلات والإكراميات وغير ذلك، وقد يؤذي المسلمين أو يعذبهم، بل قد يصل الحال إلى قتلهم -كما قلت لكم- من أجل هذه المصالح الدنيوية، وكم هو مؤسف أن يلتقي المسلم مع أخيه المسلم في ميدان القتال، من أجل هذه الدنيا الفانية التي لا تستحق شيئاً، وربما قتل كل منهما على يدي الآخر.

إذاً تأتي أهمية النقد من جهة أنه يُعيد للإنسان اعتباره، يعيد للإنسان إشعاره بأنه مسلم مكلف، مطالب بأن يقوم بعملية التصحيح، والمشاركة في الإصلاح، والمصارحة والنقد والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال موقعه، بالأسلوب الذي يعجبه والطريقة التي تناسبه.

لكن لا يجوز أبداً أن يتخلى، ويقول المسئول غيري.

وما أصيب المسلمون بما أصيبوا به، إلا يوم تخلوا وصاروا على مثل الحالة التي وصفت لكم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015