كيل المديح عند غياب النقد

وإذا غاب النقد، فإن البديل عن النقد الصحيح هو كيل المديح، فما أمامنا إلا حلاَّّن: إما النقد الصحيح، أو كيل المديح، وكثيرون يكيلون المديح والثناء والإطراء بلا حساب، وهذا الإطراء والثناء يغر الإنسان، ويغريه بأن يصر على الخطأ، كما أنه يخدع الأمة ويزور الحقائق، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن المبالغة في المديح، ولما مدحوه وقالوا: أنت سيدنا وابن سيدنا.

قال عليه الصلاة والسلام: {قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان} والحديث رواه النسائي، وسنده جيد كما قال بعض أهل العلم.

وكما في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {احثوا في وجوه المداحين التراب} رواه مسلم عن المقداد بن الأسود.

ورأى رجلاً يمدح أخاه فقال: {قطعت ظهر أخيك، أو قصمت ظهر أخيك} والحديث صحيح.

إذاً الإسلام نهى عن المبالغة في المديح والإطراء؛ لأن الإطراء لا يزيد الإنسان إلا إصراراً على ما هو عليه.

وقد يمدح الإنسان بقدر، تشجيعاً له على صواب صدر منه، واعترافاً بفضل له، لكن لا ينبغي أن يكون هذا دأباً وديدناً كما هو الواقع اليوم في عالم الإسلام، فقد أصبح المديح فناً يُمارس، وأصبحت له أجهزته المتخصصة، التي لا هم لها إلا إزجاء المديح بالحق وبالباطل، ومهما كان الشخص الممدوح، فإنها لابد أن تمدحه بكل شيء، حتى لو أخطأ حولت الخطأ إلى صواب، وبالتالي مدحته بهذا الإنجاز العظيم الذي فعله.

مديح الأشخاص: والمديح أنواع منها: مديح الشخص لفلان العالم، أو المسئول، أو الحاكم، أو الأمير، أو الداعية، أو التاجر إلخ مديح هذا الشخص، سواء كان بشكل أو بحسن الخلق أو بالفصاحة أو بالكرم، أو بغير شيء.

وقد حفظ لنا التاريخ صوراً سيئة كالحة، عن هؤلاء المنافقين الذين لا همّ لهم إلا إزجاء المديح ولعل أسماعكم قد كرهت واستثقلت تلك الأبيات التي قالها ابن هاني، يمدح أحد الأمراء العبيديين، يقول له: ما شئت لاما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار وكأنما أنت النبي محمد وكأنما أنصارك الأنصار إلى هذا الحد بلغ الذوبان في شخصية الحاكم، أنه أعطاه صفة الألوهية وصفة النبوة، وأعطى أتباعه صفات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا الصنف من الناس من المرتزقة - لا كثرهم الله - هم موجودون في كل زمان ومكان، ليست القضية أو المشكلة أن يقوم شاعر نبطي - مثلاً - فيمدح؛ لأن هذا شأنه وهذا عمله، وليست القضية أو المشكلة أن يقوم صحفي مرتزق فيمدح؛ لأن هذا عمله وهذه وظيفته، لكن المشكلة أن يقع هذا من عالم، أو من رجل من رجال الفكر أو الأدب، الذين يُشار إليهم بالبنان، وتُعقد عليهم الخناصر، ويعتبرون نموذجاً حياً لما يجب أن تكون عليه الأمة، فإذا به يقع في زلات عظيمة، قد كثرت اليوم حتى لم يستطع أحد يحصيها.

ولعلكم أيضاً ربما سمعتم ذلك الإنسان، الذي يقول لأحد الطواغيت الهالكين لما انتقل من موقف من المواقف، قال: لو كان لي من الأمر شيء، لجعلت فلاناً في موقع الذي لا يُسأل عما يفعل.

فأغرى هذا الإنسان المتعالم أو المنسوب إلى العلم، أغرى ذلك الحاكم بمزيد من الطغيان والإصرار، والغطرسة والكبرياء والجبروت، فكان يتكلم ويخطب ويقول: لا يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد.

مديح المكاسب والمنجزات: وهناك مدح المنجزات والأعمال والانتصارات والمكاسب، سواء كانت مكاسب وهمية، بل هي خسائر حولناها إلى مكاسب، وظللنا نتغنى بها زماناً طويلاً، ونضخمها وننفخ فيها نفخاً مستمراً حتى لا ينساها الناس، ونحييها ونجعل لها المناسبات، ونجعل لها الأعياد التي يبتهج فيها الناس، وقد يوضع في بعض الدول العيد إجازة بمناسبة أو بأخرى، وندندن حولها في الإعلام وفي غيره، وكأننا بذلك نعوض عن العجز الموجود عندنا، العجز عن تحصيل مكاسب جديدة، أو نتستر على ألوان من الفشل القائم الدائم، الذي نحاول أن نصرف وجوه الناس عنه بالكلام عن مكاسب مضت وانتهت، قد تكون مكاسب حقيقية أحياناً، وقد تكون مكاسب وهمية في كثير من الأحيان.

ولعله من الأمثلة التي تعرفونها، أن الإعلام -هذا النوع من المكاسب- قد يتكلم عن دولة -مثلاً- فيتكلم عن العراق، وكيف أن العراق كان يتكلم عما يسميه أم المعارك، فلما فشل في تلك المعارك وانهزم، وصارت الأمور التي صارت وعرف الناس كلهم، صار يتكلم عن مكاسب أخرى، فيقول: إن مجرد صمود الحزب أمام هذا الطوفان الهائل يعتبر مكسباً، ليغري الناس بذلك، أو يعمل مباراة رياضية يسميها أم المباريات أو أم المعارك، وينتصر فيها العراق، أو يحاول أن ينتصر ليغري الشعب بهذه الألاعيب عن الهزائم الحقيقية التي مُني بها.

وهذا الأمر ليس محصوراً في بلد معين، بل إننا نقول: إن كل أمة الإسلام الآن تعيش ألواناً من الهزائم، التي تحاول أن تتستر عليها بالمديح وضروب الثناء، وتذكر بعض المكاسب السابقة وإطرائها، وإقامة المناسبات والأعياد والاحتفالات لها.

المديح لنشاط من الأنشطة: وقد يكون المدح أحياناً ليس مدحاً لشخص، ولا لمكاسب أو منجزات، بل قد يكون مدحاً لعمل، كنشاط دعوي -مثلاً-، أو نشاط جهادي قام في بلد من البلاد، أو نشاط علمي، بحيث تسري روح التزكية والثناء والإطراء، وتختفي روح النقد والتصحيح، ولا يملك الناس القدرة على اكتشاف الخطأ، وهذا -كما قلت قبل قليل- داء موجود في كل المسلمين، لا أعني في أفرادهم بالضرورة، كلا، فإن من المسلمين من لا يكون كذلك، لكنني أعني أنه موجود على كافة المستويات، فأنت حين تنتقل إلى عالم الدعوة، وعالم الجهاد، وعالم العلم، تجد هذا الداء موجوداً، تجد أن روح التزكية تسري، روح النقد ضعيفة، فالذي يمدح ويثني ويطري هذا محبوب، أما الذي ينتقد فإنه يعتبر مشاغباً وحوله علامات استفهام، وقد لا يكون مرغوباً فيه، لقد سرت عدوى التسلط والطغيان والاستبداد على الجميع، ولفَّتهم في عباءتها الرهيبة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015