الأنبياء نماذج للاعتراف بالخطأ

أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، كلهم كانوا نماذج للاعتراف بالخطأ إذا وقع والخروج منه، فموسى عليه الصلاة والسلام يقول، كما في قصته مع الخضر: {لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف:73] ويقول: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} [الكهف:76] بل إنني أعجب حين أقرأ قصة عيسي عليه الصلاة والسلام، التي رواها البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {رأى عيسى بن مريم رجلاً يسرق -رآه بعينه- فقال له عيسى: أسرقت؟ قال: كلا والله الذي لا إله إلا هو ما سرقت قال له عيسى عليه السلام: آمنت بالله وكذبت عيني} كذبت نفسي فيما رأيته، يحتمل أن يكون وضع للقضية ألف احتمال، يمكن أن يكون أخذ هذا المال لأنه محتاج إليه، أو يكون له، أو يكون ظفر بماله فأخذه.

كلام كثير لأهل العلم المقصود أنه عليه الصلاة والسلام في شدة تواضعه واعترافه أنه يرى السارق، ثم يقول لما حلف بالله الذي لا إله إلا هو: آمنت بالله وكذبت عيني.

أما محمد صلى الله عليه وسلم، فهو صاحب القدح المعلى في ذلك، وكيف لا! وقد خاطبه الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه، يأمره بالاستغفار ويأمره بالتقوى، يقول الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] ويقول: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} [النساء:105-107] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1] {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال:67] .

وهكذا عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وأمره بالاستغفار، وأمره بالتقوى، ونهاه عن طاعة الكافرين والمنافقين، ولهذا كان من شأنه صلى الله عليه وسلم أمر عجيب من تواضعه، وقبوله للرأي الآخر، وإعراضه عن الجاهلين، وتحمله، ورجوعه إلى ما يرى أنه صواب إذا قاله أحد، من ذلك أن بعض الناس شككوا في قسمة النبي صلى الله عليه وسلم للمال -وهذا موجود في كل زمان- شككوا في قسمة المال، وأنها قسمة ما أريد بها وجه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر} والثابت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقبض على هذا الرجل الذي قال تلك الكلمة، وشكك في القيادة العليا -قيادة النبي صلى الله عليه وسلم-، لم يأمر بالقبض عليه قط، ولا أودعه في السجن، ولا فتح محاضر التحقيق معه، ولا حكم عليه بسجن مؤبد ولا بغير مؤبد، ولا شهَّر به، ولا فضحه أبداً، وإنما تركه حراً طليقاً لم يتعرض له بشيء سوى أنه صلى الله عليه وسلم قال: {رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر} وهو صلى الله عليه وسلم رسول الله، الصادق المصدوق المبرأ المنزه.

وآخرون أيضاً شككوا وطعنوا فيما يتعلق بموضوع الولاة، واختيار العمال والأمراء، الذين كان يختارهم النبي صلى الله عليه وسلم لبعض المغازي والبعوث والجيوش.

فإن النبي صلى الله عليه وسلم اختار أسامة بن زيد في أحد البعوث -وذلك في آخر عمره قبل أن يموت صلى الله عليه وسلم بزمن يسير- فبعث بعثاً وأمرَّ عليهم أسامة بن زيد، فقام بعض الصحابة الفضلاء، ومنهم عياش بن أبي ربيعة المخزومي وغيره، وشككوا في هذا الرجل لأنه مولى، وقالوا: كيف يتولى علينا مولى، ونحن من قريش وفيهم، وفيهم؟! إلى آخره.

قال الراوي: خطب النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء الناس وقال: {إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل -يعني زيد بن حارثة لأنهم طعنوا فيه عندما عينه النبي صلى الله عليه وسلم أميراً في سرية مؤتة- "وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة" أي: أنه جديراً بها وما عينته لمحبتي له، وإنما عينته لجدارته وأنه أهل لذلك- "وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا - يعني: ولده أسامة بن زيد - لمن أحب الناس إلي بعده"} وأيضاً لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم، بفتح محاضر التحقيق مع هؤلاء الذين طعنوا في هذا الأمير الذي عينه وولاه، ولا سجنهم ولا عاتبهم ولا أخرجهم، بل لم يقل لهم النبي صلى الله عليه وسلم إن فيكم وفيكم وفيكم، وإنما بيَّن الحقيقة وأن هذا الرجل جدير بالإمارة خليق بها، وأنتم طعنتم فيه بشيء لا يستحق الطعن؛ لأنه مولى، وأكرمكم عند الله أتقاكم.

هذا المنهج التربوي النبوي العظيم، ظل هو السنة المتبعة للمسلمين قروناً طويلة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، سواءً كان من الخلفاء والحكام، أم من العلماء والدعاة، أم من عامة الناس.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015