كذلك مما يدخل في باب النقد: محاسبة النفس.
فإن الإنسان قد ينتقد نفسه دون أن يحتاج إلى غيره، وكذلك الجماعة قد تنتقد نفسها، بل الدولة من الدول، قد تنتقد نفسها، وتجعل هناك مؤسسات وأجهزة، مهمتها المتابعة، والمراقبة والمراجعة، والتصحيح والتعديل، على سبيل الحقيقة لا على سبيل التغطية أو التورية أو التسكيت.
كلا، فإننا قد نجد في كثير من الدول، أنها قد تضع مؤسسات للإشراف، أو التفتيش أو المراجعة، لكن تكون مهمة هذه الأشياء مهمةً شكلية، فإن الدولة في الإسلام تجعل هناك مؤسسات وأجهزة، مهمتها مهمة نزيهة نظيفة حرة مستقلة، تقوم بالمراجعة والتصحيح على الكبير والصغير والمأمور والأمير، دون أن تجد في ذلك حرجاً أو غرابةً، بل هذا هو عين الكمال وعين القوة وعين الصواب.
موقف السلف من محاسبة أنفسهم: إذاً الفرد والجماعة والدولة والأمة، كلها تراقب نفسها، ولذلك قال عمر رضي الله عنه -كما في سنن الترمذي- قال: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً عند الله عز وجل، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتهيئوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]] ] والحديث أيضاً رواه ابن أبي الدنيا في كتابه محاسبة النفس والإزراء عليها.
كذلك حنظلة بن الربيع الأسيدي كما في صحيح مسلم جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه وهو حزين يبكي، وقال: يا أبا بكر نافق حنظلة -أنا منافق-.
قال: وما ذاك؟ قال: أكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم على حال، فإذا ذهبنا منه عافسنا الأولاد والأزواج والضيعات، ونسينا كثيراً.
إذاً: هو انتقد نفسه وحاسبها، حتى اتهم نفسه بالنفاق، وقال أبو بكر: والله إن كلنا كذلك، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {لو تكونون على كل حال كما تكونون عندي، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة} .
إذن الإنسان أول ما ينتقد ينتقد نفسه، وكذلك الفئة والجماعة، والطائفة والأمة والدولة، تنتقد نفسها قبل أن تترك فرصة لينتقدها الآخرون، أو تترك فرصة لاستفحال الأخطاء والأمراض والآفات والمنكرات، بحيث يصعب بعد ذلك تصحيحها أو استدراكها.
ورضي الله عن سلف هذه الأمة الكرام، كيف كانوا في صدق عبوديتهم لله عز وجل، وخالص إيمانهم وحرارة تقواهم وصفاء قلوبهم، ومع ذلك كله لم يكن هناك أحدٌ أكثر منهم محاسبةً لأنفسهم، وإننا نجد اليوم من الناس من يكون والغاً في المعاصي والفسوق، ومع ذلك لو أُنكر عليه أو صُحح، لقال: أنا.
أما هم فمع صيام النهار، وقيام الليل، وصدق التعبد، وحرارة التقوى، مع ذلك، اسمع ماذا يقول مطرف بن عبد الله رضي الله عنه وهو من عباد السلف وزهادهم في يوم عرفة، يقول: [[اللهم لا ترد هذا الجمع كله من أجلي]]- رأى الحجاج وما هم فيه من البكاء والابتهال، فأنحى على نفسه، وخشي أن يُرد الحجاج بسببه هو- فقال: [[اللهم لا ترد هذا الجمع كله من أجلي]] ومثله بكر بن عبد الله المزني، يقول: [[لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أن الله غفر لهم لولا أني كنت فيهم]] .
يونس بن عبيد رحمه الله، يقول: [[والله إني لأعد مائة خصلةٍ من خصال الخير ما أعلم في نفسي واحدةً منها]] فليس عندهم كبرياء، ولا غطرسة، ولا غرور، وما فيهم أحد يقول: أنا أنا.
يقول ابن أبي مليكة: [[لقد أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما فيهم واحد إلا يخاف النفاق على نفسه، وما منهم أحد يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل وإسرافيل]] .
هؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم التابعون لهم بإحسان.
هذا محمد بن واسع يقول - وقد مدحه الناس وأثنوا عليه وهو مريض- قال: [[وما يغني عني ما يقوله الناس، إذا أُخذ بيدي ورجلي وذهب بي إلى النار]] .
إذاً مدح الناس وثناؤهم والضجيج الإعلامي، حول فلان من العلماء أو فلان من المسئولين، أو مدح الناس لفلان؛ لأنه مشهور أو معروف، هذا لا يغني عنه شيئاً إذا كان ما بينه وبين الله غير مستقيم، وإذا كان ما بينه وبين الله حسن فلا يضره أن يكون الناس بخلاف ذلك.
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب فوائد محاسبة النفس سراً وعلانية: وقد يحاسب الإنسان نفسه سراً بينه وبين نفسه، فيعاتبها ويوبخها، وهذا لا شك أنه أبعد عن الرياء، وهو يدعو الإنسان إلى أن يتواضع ويعترف بالخطأ، ويراجع نفسه أولاً بأول، وقد يحاسبها علانية وعلى ملأ من الناس، وعلى مرأى ومسمع منهم، وهذا له إيجابية ومنافع كثيرة، منها: الفائدة الأولى: أنه يعترف بهذا الخطأ لئلا يُتابع عليه، وذلك إذا كان خطأ مشهوراً معروفاً متداولاً عند الناس، فيعلن أنه رجع عنه أو تاب منه؛ لئلا يتابعه الناس عليه، كأن يكون صاحب بدعة تاب منها، فيقول للناس: من كان يعرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا فلان بن فلان، كنت أقول كذا وكذا والآن تبت منه مثل ما قاله أبو الحسن الأشعري في خطبته المعروفة.
الفائدة الثانية: والاعتراف علانية أيضاً من فوائده: أنه يعود الآخرين على ذلك.
فإن الناس يحن بعضهم إلى بعض، ويقلد بعضهم بعضاً، فإذا كان العالم أو الحاكم أو الداعية، عود الناس أنه يعترف بالخطأ علانية وأمامهم، يقول: قلت كذا وهذا خطأ، وفعلت كذا وهذا خطأ وأنا أتوب، فإن الناس حينئذٍ يتعودون على أن يعترفوا هم أيضاً بأخطائهم، ويرجعوا عنها، ويحاولوا تصحيحها أولاً بأول.
الفائدة الثالثة: من الاعتراف العلني: أنه يقطع الطريق على خصومك؛ لأنهم قد يأخذوا هذه الأخطاء ويشنعون بها عليك، فإذا اعترفت بها علانية قطعت الطريق عليهم.
الفائدة الرابعة: أنه يضع الإنسان في مكانه الطبيعي، فلا يكون هناك تعصب لفلان من الناس، فإننا نجد -مثلاً- من الطلاب من يتعصب لعالم من العلماء، لماذا؟ لأنه لا يعرف إلا الصواب من أقواله.
لكن لو أن هذا العالم قال: أنا أخطأت في كذا وكذا.
عرف الناس حينئذٍ أنه ينبغي ألا يتعصبوا، وأن يأخذوا أقواله باعتدال ودراسة ومقارنة ولا يغلوا فيه أو يفرطوا.
وكذلك الحال بالنسبة لغيره، مثلاً: المتنفذ أو المسئول، إذا كان يعترف بخطئه ويتراجع عنه، فإنه بذلك يشجع الناس على أن يوافوه ويواصلوه بالخطأ ويناصحوه، كلما رأوا عليه شيئاً يحتاج إلى مناصحة.