قل مثل ذلك في القرآن الكريم، فقد اعتاد الناس أن الإنسان يستحب أن يختم القرآن في رمضان, أقصد بمفرده، كل واحد منا حريصٌ على أن يختم في رمضان ثلاث أو أربع أو ست مرات، وهذا لا شك أنه حسن، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس, وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل, وكان يلقاه في كل ليلة فيدارسه القرآن, قال: ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة} .
ومن هذا الحديث أخذ أهل العلم أنه يستحب للإنسان أن يختم القرآن في رمضان ما تيسر له, بقدر ما يطيق، وأن يكثر من تلاوة القرآن في رمضان؛ وذلك لأن رمضان هو شهر القرآن قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] فيه نزل القرآن، من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا, وفيه ابتدأ نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيستحب للعبد أن يكثر من قراءة القرآن وتلاوته ومدارسته, إما بنفسه أو مع الصالحين من عباد الله, لكن يقرأ القرآن بخشوع كما أنزل, ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما قام ليلة كاملة بآية واحدة من كتاب الله يرددها حتى الصباح, وهكذا كان أصحابه من بعده.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سمع القرآن بكى! كما في الصحيح عن ابن مسعود أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: {اقرأ عليّ القرآن، قلت: يا رسول، أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري قال: فقرأت عليه من سورة النساء, حتى أتيت على قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال النبي صلى الله عليه وسلم: حسبك الآن قال: فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم فإذا عيناه تذرفان} فكان عليه الصلاة والسلام يبكي ويخشع لقراءة القرآن, وكذلك الصالحون من بعده عليه الصلاة والسلام, فكان أبو بكر إذا صلى بالناس صلاة الفجر بكى حتى يسمع نشيجه من وراء الصفوف, وربما خنقته العبرة حتى لا يدري من وراءه ماذا يقرأ أبو بكر رضي الله تعالى عنه من القرآن! بل عمر رضي الله عنه القوي الشديد الأيّد, كان يخشع للقرآن أعظم الخشوع, حتى ربما قرأ آية من كتاب الله فاهتز لها واضطرب, وجلس في بيته مريضاً أياماً يعاد.
- حال الناس مع القرآن: أما أن يكون هم الواحد منا متى يصل إلى آخر السورة, أو آخر الجزء، أو آخر القرآن ومتى يختم! وربما هَذَّ القرآن هذّاً كهذّ الشعر, لا يقف عند وعده ووعيده, وحلاله وحرامه, ومعانيه, بل يهذّه هذا، لا يدري ما معنى القرآن, ولا يعتبر به ولا يتأثر! , فلا شك أنه ليس لهذا أنزل القرآن, والله عز وجل يقول: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] ويجب أن نعلم -أيها الإخوة- علم اليقين أن القلب الذي يسمع آيات الله عز وجل, ثم تتلى عليه ولا يتأثر ولا ينكسر ولا يخشع, أنه قلب مريض إن لم يكن قلباً ميتاً، قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [الجاثية:7-8] وقال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات:50] وقال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] أليس من العجب وكل العجب أن نبكي عند دعاء القنوت؟ -مثلاً- وتسكب العبرات، وربما ارتفعت الأصوات والصيحات! وقبل ذلك بدقائق كنا نسمع الآيات البينات المزلزلات، التي لو أنزلت على الجبال الراسيات؛ لتصدعت من خشية الله عز وجل، ثم لا ترق قلوبنا، ولا نتأثر ولا ندمع ولا نبكي! أين نحن من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} هذا البكاء الذي نتصنعه أحياناً وربما نتأثر به بسبب حسن الصوت وجماله، أو خشوع الإمام, يجب أن نعلم أن هذا البكاء قد يدخل أحياناً في باب الرياء, لأن التكلف والتعمل من خلال الاجتماع، وارتفاع الأصوات له تأثير، والشيء الذين ينفعك عند الله هو الحقيقة التي ليس فيها بهرج ولا خداع ولا رياء ولا مجاملة, وإنما لله, ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} فالعين التي يخرج منها، مثل رأس الذباب، من البكاء من خشية الله، لا تمسها النار, كما قال عليه الصلاة والسلام لكن ما يدريك أن بكاءك من خشية الله؟! إذاً: يجب ألا نغفل عن حقيقة العبادة، سواء حقيقة الصيام, أم حقيقة الصلاة, أم حقيقة قراءة القرآن, ولا شك أن أربع تسليمات، أو خمس تسليمات، تستغرق فيها ساعة كاملة في خشوع, وطمأنينة في القيام والركوع والسجود, أفضل من أربعين ركعة في نفس الساعة ليس فيها خشوع ولا طمأنينة ولا تسبيح ولا ذكر لله عز وجل.
ولا شك أن ساعة تقضيها في قراءة نصف جزء من القرآن بتدبر وتمعن وتعيد الآية التي تتأثر بها, وتحاول أن تعرض الآيات على قلبك، أفضل من نفس الساعة التي تقرأ فيها جزأين أو ثلاثة، هذّاً كهذِّ الشعر, إنما همك رأس السورة أو رأس الجزء, أو متى تختم القرآن!