قل هو من عند أنفسكم

إذاً: هذه الآيات الثلاث هي تطويف بالإنسان في ملكوت السماوات والأرض، وفي كل شيء، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49] ثم عقَّب على ذلك بقوله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الذاريات:50-51] وفي هاتين الآيتين، خاصة الآية الأولى منها إشارة إلى قاعدة مهمة هي واضحة، ولكنها تغيب عن الأذهان كثيراً، وهي أن كل ما يصيب الإنسان في نفسه، أو بدنه، أو أهله، أو ماله، أو ولده، إنما هو بسبب نفسه، ولا نجاة له مما أصابه إلا بإصلاح حاله، ولذلك قال هنا: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] قال بعض أهل العلم: كل شيء خفته فإنك تفر منه، إلا الله تعالى فإنك إذا خفته فررت إليه، والفرار إلى الله عز وجل يعني: الفرار إلى دينه، وطاعته، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، والتخلص من أسباب العقوبات، وهذا أمر يصدق على الفرد والجماعة، والدولة والأمة، وهي قاعدة قرآنية جليلة قرَّرها الله تعالى في غير موضع، كما في قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] وقال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53] وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] وهذا الكلام يصدق على المصائب الدينية، والمصائب الدنيوية، والله أعلم.

فأما المصائب الدنيوية، فأمرها واضح، مثل ما يصيب الناس من الكوارث العامة، كالقحط، والجوع، والخوف، وتسليط الأعداء، والتفرق، والقتال، والزلازل، وغيرها، فهي بسبب مصائب الأمة الدينية ومعاصيها، ومخالفتها لأمر الله عز وجل.

وكذلك المصائب الدينية، فالوقوع في معصية ربما يكون عقوبة على معصية أخرى قبلها، كما أن الطاعة تكون سبباً في الطاعة بعدها، ولهذا قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] وقال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] وفي سورة البقرة، قال سبحانه: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة:10] وفي الحديث القدسي {من تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة} .

إذاً: الطاعة ثمرتها الطاعة بعدها، والمعصية ثمرتها المعصية بعدها، وبناءً عليه فكل ما يصيب الإنسان فهو بسبب ذنوبه، والمخرج من كل بلاء، هو حسب التعبير المذكور في الآية نفسها، المخرج من كل بلاء هو الفرار إلى الله، الفرار إلى الله بترك الذنوب والمعاصي، والاستغفار أيضاً من الذنب والمعصية، فلابد أولاً من الاستغفار، سواء اللفظ باللسان، "أستغفر الله" وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من أن يقول: {سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي} لقول الله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] وكان يحسب له في المجلس الواحد مائة مرة أستغفر الله وأتوب إليه، لكن لا يليق أن يستغفر العبد وهو مقيم على المعصية لا يفارقها، ولهذا ينبغي أن يشفع الاستغفار بالإقلاع عن الذنب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015