آثار التجديد في العصر الحاضر

ولذلك فإننا ونحن الآن نعيش في مطلع هذا القرن وبعد مضي سنوات ليست بالطويلة نتلمس ونتلفت يمنةً ويسرة، وننتظر صورة هذا التجديد الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن وعده عليه الصلاة والسلام هو في الحقيقة إنما هو وعد من الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن يتخلف، ولذلك يتلفت الناس ينظرون أين آثار التجديد ومن هو المجدد، وليس ثمة حاجة إلى أن يسمى شخصٌ بعينه، على أننا نعرف أن هذه الأمة الإسلامية الخير فيها باقٍ ولا تعدم في كل عصرٍ ومصر من رجالاتها وفضلائها وعلمائها ودعاتها ممن يكونون مشهورين كالشامة في الناس، لكن مع ذلك فإننا نجد اليوم أن من أبرز معالم التجديد لهذا الدين هي هذه الصحوة المباركة، وهذا التوجه الخيّر الذي لم يقتصر على مجال دون مجال أو بلد دون بلد أو مستوى من الناس دون مستوى، بل أصبح شاملاً لكل هذه الأشياء.

فنحن الآن نلمس آثار هذه الصحوة وآثار هذا التجديد في هذه الأمة، ويبرز ذلك في صورٍ شتى لا أستطيع أن أحصيها لكن أشير إلى شيءٍ منها.

1- شعور المريض بالمرض: فأبرز آثار هذا التجديد الذي بدأنا نلمسه هو شعور المريض بالمرض، وشعور المريض بالمرض هو أول خطوات العلاج، فالمصيبة حين يخيل إلى المريض أنه سليمٌ معافى ما به سوء، وحينئذٍ يستعصي على الأطباء ويرفض نصحهم ويصر على ما هو عليه، وهكذا كان حال المسلمين في وقتٍ مضى، لكن اليوم أصبح المسلمون أو أصبح كثيرٌ منهم يحسون بحقيقة المرض ويتململون تحت وطأته، ويتلفتون يبحثون عن العلاج وعن المخرج مما هم فيه، وبغض النظر عن كونهم استطاعوا فعلاً أن يجدوا المخرج أو لم يجدوه، وعن كونهم سلكوه أو لم يسلكوا، فإن الشعور ذاته بهذا الألم وبهذه الحرقة على الواقع هو في حد ذاته من أبرز مظاهر التجديد التي تعيشها الأمة الإسلامية.

يوماً من الأيام كنا نجد من شباب المسلمين من يقول: إن الأمة الإسلامية إذا أرادت أن تتقدم وتتحضر؛ فإن عليها أن تسير خلف أوروبا حذو القذة بالقذة وتقلدها في حضارتها خيرها وشرها، وحلوها ومرها، وفي يوم من الأيام كنا نجد من الناس الذين انسلخوا عن هذه الأمة، وتخلوا عن التزامهم ودينهم وصلاحهم، من أصبحوا يسخرون من الإسلام وأهله ويرمونهم بالألقاب والأسماء التي لا تليق بهم، أما اليوم فقد أصبح كثيرٌ من شباب الأمة يحسون بالألم من واقع هذه الأمة ويعبرون عنه بصورٍ شتى ويبحثون عن المخرج.

2- الإقبال على المادة الإسلامية الفكرية: صورة أخرى، هذا الإقبال الكبير على المادة الإسلامية التي تقدم للناس، كتاباً، شريطاً، مجلةً، برنامجاً، محاضرةً، أي مادة تقدم للناس وتكون ذات محتوى إسلامي تجد الإقبال، انظر كم معرض كتاب إسلامي يقام، كم معرض شريط، كم محاضرة، كم ندوة، كم كتاب؟ تجد أنك أمام حجم هائل جداً، وأيضاً أقول بغض النظر عن التقييم لهذه الأشياء أن هذا منها الغث والسمين، ومنها شيء أفضل من شيء ومنها ومنها، هذا أمر ليس هذا مجال الحديث عنه، إنما مجال الحديث النظرة العامة أنه الكم الهائل وهذا الإقبال على كل ما هو إسلامي يؤكد فعلاً أن الأمة بدأت تعي ضرورة الولاء الحقيقي للإسلام، ولذلك أصبح كثير من الناس الذين يريدون -مثلاً- الربح المادي يهتمون بطبع الكتاب الإسلامي، وأصبح كثير من الكتَّاب والمفكرين الذين كانوا بالأمس ربما ضد الإسلام؛ فمنهم من كان ماركسياً، ومنهم من كان علمانياً ومنهم ومنهم، ومع ذلك اليوم ركبوا الموجة وصاروا يتكلمون باسم الإسلام ويتحدثون عنه، ولا حاجة إلى ذكر الأسماء أيضاً، ولا يعني هذا أننا نغلق باب التوبة في وجوه الناس، لا مانع أن يكون كاتباً منحرفاً بالأمس وتاب إلى الله عز وجل اليوم، وصار يكتب عن الإسلام الكتابة الصحيحة، لا مانع من هذا، إنما المقصود أن منهم من يركب الموجة ويتحدث باسم الإسلام وربما يكون محتفظاًً بآرائه وأفكاره، وربما يصوغها بقالبٍ آخر.

3- الإقبال على العلم الشرعي والاستفتاء: الصورة الثالثة: مسألة الإقبال على العلم الشرعي: ففي وقتٍ مضى لم يكن أحد يستطيع أن يستقطب الناس إلا من خلال الإشارة، فمثلاً لو وجد خطيب يتحدث عن قضايا الواقع بتهجم وبشده وبحرارة كان الناس يأتون، من باب حب الاستطلاع في كثير من الأحيان أو لأي غرض، لكن اليوم أصبحت تستغرب أنك قد تجد عالماً في حلقة علمه متكئاً على أسطوانته في المسجد، فتجد أن حوله عدداً غير قليل من الطلاب من كافة المستويات يعدون بالمئات أحياناً؛ يجلسون ليسمعوا كلاماً علمياً ربما يكون فيه جفاف، وثقل يحتاج إلى صبر، ويحتاج إلى كدّ، ومع ذلك تجد عندهم الصبر والمثابرة، وتجدهم قد تعودوا حني وثني الركب في مجالس أهل العلم.

كثرة الاستفتاءات: فتجد الناس أصبح الواحد منهم يسأل عن كل ما يمر به، بل ربما تجد الناس أصبحوا يسألون عن قضايا حدثت لهم من عشرات السنين طيلة المدة الماضية، الناس منهم من كان في غفلة ما سأل أو ما مر الأمر في خاطرة؛ لكن الآن وعى وتيقظ وأصبح يسأل، ولذلك تجد أن أهل العلم الذين وضعوا أنفسهم لهذا العمل الجليل: (موضع الفتيا وبيان أحكام الإسلام والحلال والحرام للناس) أصبح بعضهم ربما لا يجد وقتاً ليرتاح من كثرة إقبال الناس عليهم وسؤالهم واستفتائهم، وما نجد مثلاً فيما يتعلق بهيئة كبار العلماء أو اللجنة الدائمة أو غيرها من الجهات التي قامت بهذا العمل ما هو إلا نموذج من ذلك.

4- إحياء الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: من الصور أيضاً -وهي صورة مهمة في نظري-: إحياء شريعة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي ضعفت في نفوس كثيرٍ من الناس، فأحيا المسلمون هذه الشعيرة في هذا العصر وقامت حركات جهادية في أكثر من بلد، وانتعشت في هذا الوقت بالذات، واستطاع المجاهدون الأفغان بفضل الله تبارك وتعالى أن يحققوا نصراً على عدوهم، إضافة إلى أن المسلمين في بلادٍ أخرى كثيرة ممن وقعوا زمناً طويلاً تحت تسلط النصارى، وغيرهم بدءوا يفكرون: إلى متى نظل تحت تسلط هؤلاء الكافرين؟ ولعل ما نسمع فيما يقع في روسيا نفسها من تحرك في أوساط المسلمين أو الأمم التي كانت موالية للإسلام فسيطر عليها الروس وحاولوا سلخها ومسخها يمت إلى هذا الأمر بصلة.

كذلك موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكثرة السؤال عن هذا الأمر، كثرة الحديث عنه، ويقظة الناس تجاهه، شعور الابن -مثلاً- وهو في بيته أنه لابد أن يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقدر ما يستطيع، وشعور كل إنسان في أي مكانٍ أنه لابد أن يقوم بهذه المهمة، لم يعد الإنسان المستقيم مجرد إنسان سلبي يتردد على المسجد للصلاة فقط، لا، أصبح يحس بأنه لا يمكن أن يرضى بالتناقض بين ما يعتقد وبين ما يشاهد في الواقع، وأنه لابد أن يعمل على تحويل هذا الأمر إلى الصورة الإسلامية.

5- صياغة الحياة كلها إسلامياً: ولذلك جاءت الصورة الخامسة وهي: العمل على صياغة الحياة كلها صياغة إسلامية بكافة مجالاتها؛ الأب يصوغ بيته صياغة إسلامية، المدير يصوغ مدرسته، المدرس يصوغ طلابه، الزوج يؤثر في زوجته، الموظف في إدارته، المسئول في أي قطاعٍ كان، أصبح هناك هَمُّ كبير.

وأنا أقول: إن هذا الأمر ربما يكون النتيجة، هَمٌّ في محاولةِ صياغة الحياة صياغة إسلامية وإزالة كل ما يعارض الإسلام وجعل المجتمع أقرب إلى الالتزام بشرائع الإسلام وأصوله، وهذا لا يعني أن هذا الأمر حصل فعلاً وانتهى وأصبح كل شيء كما يحب الله ويرضى، لكن أقول: إنه وُجِدَ هَمٌّ في نفوس الناس هو هكذا، هَمُّ محاولةِ صياغة الحياة صياغة إسلامية في جميع مجالاتها، أصبح الطبيب مثلاً يفكر كثيراً في محاولة تحويل هذا المستشفى الذي يعمل فيه إلى مستشفى ملتزم بأوامر الله بفصل الرجال عن النساء مثلاً، تجنب الاختلاط بقدر ما أمكن، وتجنب الأمور التي لا ترضي الله ورسوله من المحرمات بأنواعها، أصبح المسئول في إدارته يحرص على تحويل هذه الإدارة إلى إدارة ملتزمة بأوامر الله ورسوله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015