الدليل الأول: استقراء السنن الإلهية

من ذلك مثلاً: قضية استقراء السنن الإلهية، فإن الله عز وجل جعل في الحياة سنناً ونواميس تمشي وتمضي، مثل ما أن الشمس تطلع وتغيب، كذلك حياة الناس، وحياة الأمم، وحياة الشعوب، والنصر والهزيمة، والتقدم والتأخر، والفقر والغنى، كلها مربوطة بسنن إلهية موجودة في هذه الدنيا، والمؤمن العاقل البصير -أحياناً- يدرك من خلال هذه السنن ما سيقع.

ولذلك أذكر على سبيل المثال: أن الشيخ ابن تيمية رحمه الله، لما جاء التتار إلى بلاد المسلمين، خافهم الناس وفزعوا منهم، فكان ابن تيمية يقول لهم: إنكم غانمون ومنصورون.

فيقول له الناس: يا إمام! قل إن شاء الله.

فيقول: إنكم منصورون، وأقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، أي: النصر مؤكد ومقطوع به، ولكن أقول إن شاء الله مثل ما جاء في الحديث: {وإنا إن شاء الله بكم لاحقون} بالنسبة للموت، مع أن الموت حتم لازم، تحقيقاً لا تعليقاً؛ لأنه من خلال استقراء النواميس الإهية لاحظ ذلك، وإنه أعجبني مقطع في كتاب نفيس جميل اسمه"صناعة الحياة" أحببت أن أشرككم معي في هذا المقطع الجميل، يقول فيه: علينا كمؤمنين، أن ننتظر ساعة يتضح فيها من يكذب ولا بد، ننتظرها كما ننتظر أي حدث مادي، كشروق الشمس أو نزول المطر إذا أغلقت السماء، ومن الموازين: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81] وقريب منه ميزان: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52] وأن الخطيئة الأولى تجلب خطيئة ثانية، والثانية تجلب ثالثة عقوبة من الله، حتى يغلق القلب على ظلمة.

وبعكس هذه الموازين: التوفيق الذي يحيط المهتدي والصادق، وفق ميزان: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] وأمثاله.

يقول: وكل هذه الموازين نتداولها، وكأننا ننتظر الآخرة؛ ليحيق المكر السيئ بأهلة ويثاب المؤمن، وهذا جزء من الحق، أي: ما ننتظره في الآخرة هذا حق وجزؤه الآخر، هو الاعتقاد بأن الحياة البشرية الدنيا محكومة بهذه الموازين جزماً، ولكن لا يرى البعض آثارها.

لأنها لا تظهر دائماً بسرعة، بل قد تمتد لفترة زمنية لتظهر، فينسى الربط بين الفعل أو العقوبة والثواب، مع اعتقادنا بأن العقوبة قد تأتي في نفس اللحظة أحياناً، مثل مئات من القصص، يرويها الثقات على مدى الأجيال، عن شاهد زور حلف بالقرآن أمام القضاء كاذباً فعمي فوراً، أو مغتاب يغتاب فيكوى لسانه بلقمة حارة فوراً يكوي الله بها لسانه عقوبة عاجلة، فهذا يحدث، لكن ليس من الضروري أن يحدث دائماً.

لكن العقوبة العاجلة ليس من الضرورة أن تأتي في لحظة، قد تأتي في عشر سنين، أو مائة سنة أحياناً وأشباه ذلك.

يقول فدراسة آثار موازين الإيمان على فترة ممتدة وأجيال، ترينا بوضوح نتائج مشخصة مرئية، يؤول فيها أمر أهل الباطل إلى تراجع، وأمر أهل الحق إلى تمكين، وفي القرآن الكريم شواهد، وكذلك في كتب التاريخ وفي مرويات المعمرين، ولـ محمود شيث خطاب، وهو مسلم وافر الصدق، كتاب عنوانه"عدالة السماء" هذه قصص صغيرة تباع في الأسواق يروي فيها بعض قصص مدارها على هذه الموازين.

-ذكر بعض هذه القصص- ثم قال: وحدثني ثقة قال: إن جندياً تركياً -هذا لمؤلف الكتاب- انعزل عن وحدته، يوم انسحاب الجيش العثماني من بغداد، أمام ضغط الجيش البريطاني، ووقف هذا الجندي بباب جامع أبي حنيفة في بغداد، فجاء شقي سلبه، ثم قتله بظلم في وقفته في الباب، وبعد عشرين سنة تشاجر هذا الشقي مع آخر، فطعن فهام على وجهه من حرارة الطعنة لا يدري ما يفعل، وظل يهرول بلا وعي مئات الأمتار، حتى وصل باب الجامع، فخر ميتاً في نفس الموضع الذي قتل فيه التركي البريء، ولو أنا فتحنا مثل هذا الموضوع في مجلس المعمرين في الحضر أو البدو، وفي بلاد العرب أو الهند أو الصين، لأقسموا لنا على صدق عشرات من مثل هذه القصص رأوها بأنفسهم رأي العين.

ومن أعجب الأمور -ولا زال الكلام لمؤلف الكتاب محمد بن أحمد الراشد - ومن أعجب الأمور: أن العقوبة قد لا تظهر في الفاعل، وإنما تظهر في ولده لحكمة ربانية، فقد حدثني أحمد جمال الحريري رحمه الله، وهو يطوف بمكة، قال: يا بني، كلنا قد استهجنا سحب جثة الأمير العراقي عبد الإله بن علي، صبيحة ثورة أربعة عشر تموز ببغداد، ولكن هل تظن أن ذلك جاء من غير مقدمة؟ قال: لقد رأيت علياً أباه صبيحة التاسع من شعبان بمكة، يوم أعلنت الثورة العربية التي قادها لورنس، قال: رأيته يصعد إلى قلعة مكة، التي ما زالت شاخصة حتى الآن، فأعطى الحامية العثمانية أماناً إذا سلمت بغير قتال، فسلموا ونزلوا آنذاك بالأمان، وكرهوا القتال بمكة، قال: فأطلق سراح الجنود، وكانوا أربعمائة، ووضع الحبال في أرجل ستة عشر ضابطاً، وسحبهم أتباعه وهم أحياء.

أي: جروهم بالسيارات على الإزفلت أو غيره وهم أحياء، والغوغاء تركض وراءهم، فماتوا بعد بضع مئات أمتار، واستمروا يسحبونهم حتى بلغوا البطحاء التي بين مكة ومنى، فعلقوهم على الأشجار أمواتاً، وكل ذلك رأيته بعيني، وما أظن الذي حدث لولده إلا عقوبة مثلية لتلك السيئة.

وبمقابل هذا، هل رأيت من سار على سنن العدل، ثم ساءت أموره؟ لم نرَ ذلك في فرد أو حكومة قط، وكم من رهط مؤمن عجز عن دفع ظلم يقع عليه، فينجيه الله تعالى ويبطش بالظالم تصديقاً لميزان: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] وهلاك الأمم حين يشيع المنكر، وتنتشر المعاصي، يشاهده المرء في المدن الخربة، ومدينة بومبي الفاسقة بجنوب إيطاليا، محفوظة من يوم أهلكها بركان فيزو، قبل ألفي سنة.

يقول المؤلف: وقد تجولت فيها، ورأيت دنان الخمور، وصور النساء العرايا كأنها رسمت أمس، وهل ما حدث للكويت من هزة اقتصادية بسبب سوق المناخ، بعيد عن معنى عقوبة بلد شاع بين أهلها الربا، ورضي معظمهم بيع الغرر التحايلي الذي كان بالمناخ.

هذا كلام المصنف، ولو كتب الكتاب بعد حادثة الكويت الأخيرة، لأشار إليها، باعتبارها نموذجاً آخر من نماذج العقوبات الإلاهية، التي تجري وفق هذه السنن.

إذاً في الإسلام أول دليل نستقرئ من خلاله المستقبل: السنن الإلهية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015