مثل رابع: بعد ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصاب المسلمين كلهم هم وحزن عظيم، حتى إنهم كانوا كالغنم المطيرة، وأظلم في المدينة كل شيء -كما يقول أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه- ولما بويع لـ أبي بكر الصديق بالخلافة قال لـ عمر: [[انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يزورها - أم أيمن حاضنة الرسول صلى الله عليه وسلم أم أسامة بن زيد، ومن أقرب الناس إلى الرسول عليه الصلاة والسلام! فانطلقا إليها لزيارتها، فلما رأتهما بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: أما إني أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أبكي انقطاع الوحي من السماء فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها]] .
إذاً هذه المرأة لا تبكي لموت حبيب لها، أو قريب، أو صديق، أو ابن، كلا! إنما تبكي لانقطاع الوحي من السماء، حتى فقدها لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يكن هو فقط الذي يبكيها، وإن كان فقده عزيزاً عظيماً على النفوس، لكن الذي كان يبكيها هو انقطاع الوحي من السماء، وتعتبر ذلك أمراً جللاً يستحق البكاء، فهيجتهما على البكاء الخليفة ووزيره فجعلا يبكيان معها.
يا أحبتي! يجب أن يفكر المرء منا، كم كتب له من العمر في هذه الدنيا؟ خمسين، ستين، سبعين سنة -مثلاً- كم مضى من هذا العمر؟ سؤال ثالث ماذا صنعت فيما مضى من العمر؟ وكم بقي؟ وماذا سوف تصنع في ما بقي من عمرك؟ هل تعتقد أن الأمور سوف تتاح لك، حتى تفعل بكامل راحتك وهدوئك وسعة بالك؟ تصور يا أخي الكريم، أنه في يوم من الأيام أصابك صداع في رأسك، وبعد ما ذهبت إلى المستشفى، وأجريت التحاليل والفحوص اللازمة، قالوا: عندك سرطان في المخ هذا وارد، كل إنسان ممكن يحدث له ذلك.
ما موقفك حين ذاك؟ لا شك أن موازين الإنسان سوف تتغير، ونظرته تختلف، وتفكيره سينحو منحى آخر، لكن المشكلة أنه في ذلك الوقت قد لا يكون بإمكانه أن يعمل شيئاً؛ لأنه لم يعد في حالته الطبيعية، وربما ليس لديه من الإمكانيات ما لديه الآن.