الأذى فرع عن الاختلاط وهو أنواع

فالمعنى الأول الذي ينبغي إدراكه من الحديث أنه لا بد لمخالط الناس من الأذى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل وجود الأذى فرعاً عن مخالطه الناس، يخالط الناس ويصبر على أذاهم، إذن: من خالط الناس فلا بد أن يلقى الأذى، ولذلك تجدون كثيراً من المصنفين وخاصة في الأدب والشعر والطرائف يعقدون فصولاً وأبواباً في الحديث عن الناس، ونكران الناس للجميل، وضرر الناس، وإساءة الناس، ومن هو الذي أساء إلى جيرانه، ومن هو الذي أساء إلى أقاربه، ومن هو الذي عق والديه، إلى آخره، ويسردون حكايات طويلة عريضة في ذلك، يقول الشاعر في ذلك مثلاً يقول: شر السباع الضواري دونه وزرُ والناس شرهم ما دونه وزرُ كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع وما أرى أحداً لم يؤذه بشر أي: أن هناك حواجز تمتنع بها من أذى السباع، لكن لا يوجد حواجز تمتنع بها من أذى الناس، وهناك من الناس من سلم من أذى السباع، لكن لا يوجد من سلم من أذى الناس.

وذكر الأصمعي أن رجلاً قيل له: هل تؤذي جيرانك؟ قال: إذا لم أؤذ جيراني فمن أؤذي إذن! أؤذي من لا أعرف، المقصود أن الأذى لا بد أن يصدر من الإنسان، فأنت أيها الإنسان مؤذٍ ومؤذىَ في نفس الوقت، والرسول صلى الله عليه وسلم يرشدك إلى الصبر على جميع أنواع الأذى الذي تلقاه من الناس، ومن أنواع الأذى التي يجب الانتباه لها ما يلي: أولاً: هناك الأذى المقصود الذي يقصد من أحدثه أن يسيء إليك سواءً بالقول أو بالفعل، كمن يعيرك أو يسبك، أو يغتابك، أو يعترض سبيلك بما يستطيع، وهذا نوع من الأذى لابد أن تلقاه فلا بد من الصبر عليه، وقد يكون هذا النوع من الأذى في غاية الظهور، بل من الناس من لا يفهم من كلمة الأذى إلا هذا النوع.

النوع الثاني: من أنواع الأذى الذي يصدر من الناس هو: الأذى الذي تلقاه نتيجة أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ودعوتهم إلى الله، فكم من إنسان علَّم الناس أمراً من أمور الدين، أو بيَّن لهم ما يجهلون، فلقي منهم الأذى، وقدوته في ذلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، من الأنبياء من قُتل، ومن الأنبياء من أُخرج من بلده، ومن الأنبياء من ضُرب، وفي الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: {كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} .

إذن فالنوع الثاني من الأذى هو الذي تلقاه منهم بسبب أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ودعوتهم إلى الله عز وجل فينبغي ألا يخرجك هذا الأذى عن طورك، ولا يدعوك إلى ترك ما أنت عليه، بل اصبر، واحتسب، وقابل ذلك بالهدوء والتعقل.

النوع الثالث: من الأذى هو: الأذى غير المقصود وقد تتساءل: ما هو الأذى غير المقصود؟ فأقول: الأذى غير المقصود هو الذي يصدر عن بعض الأفراد بحكم الطبيعة، من غير قصد الإضرار أو الإساءة إلى الآخرين، وذلك أن الاجتماع يحوي عدداً كبيراً من البشر، عقولهم مختلفة، شخصياتهم مختلفة، طباعهم متفاوتة، فهذا شخص هادئ، وهذا شخص متعجل، وهذا شخص حاد، وهذا شخص متوتر عصبي، وهكذا، فمن جرَّاء اختلاط هذه النوعيات المختلفة المتفاوتة تفاوتاً كبيراً؛ يقع بينهم أنواع من الأذى غير مقصودة، فيتصرف هذا الإنسان تصرفاً عفوياً بسيطاً؛ فيخدش الآخر ويؤثر فيه دون أن يشعر المتصرف بهذا، ولذلك قلت قبل قليل: إن الإنسان يكون مؤذياً ويكون مؤذى في نفس الوقت، فقد يصدر منك تصرف عادي غير مقصود يسيء إلى بعض من حولك، والعكس قد يصدر من بعض من حولك تصرف عادي غير مقصود فيسيء إليك، ولابد أيضاً من الصبر على ذلك، وتعويد النفس على الصبر، وبغير ذلك لا يمكن أن يتم الاجتماع، وحين يكون الاجتماع واجباً يكون الصبر على هذه الأشياء واجباً، وحين يكون الاجتماع مشروعاً أو مستحباً يكون الصبر عليها مستحباً، أو مشروعاً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015