الحالة الأولى: هي العزلة عند فساد الزمان، فإذا فسدت المجتمعات بالكلية، وانحرفت، وابتعدت عن هدي الله عز وجل ولم يجد الإنسان فيها خيراً يأنس به، وتحققت في هذه المجتمعات الصفات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي ستأتي الإشارة إليها، شرعت للإنسان العزلة عنها، ومن الأدلة على ذلك، ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: {كيف بكم وبزمان يغربل الناس فيه غربلة، وتبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فصاروا هكذا، وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه؟ فقالوا له: كيف نصنع عند ذلك يا رسول الله؟ قال: تأخذون ما تعرفون وتدعون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتدعون أمر عامتكم} والحديث رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه، والإمام أحمد في مسنده وغيره، وهو حديث صحيح.
وقريب منه ما ورد في صحيح البخاري من قول النبي صلى الله عليه وسلم: {تبقى حثالة من الناس} وقد بوب البخاري على هذا الحديث بباب (نزع الأمانة) وذكر حديث حذيفة الذي فيه نزع الأمانة من قلوب الرجال.
ففي هذا الحديث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم مجموعه من الصفات متى وجدت في أي مجتمع شرع فيه الإقبال على الخاصة والإعراض عن العامة، فتعالوا بنا نتأمل هذه الصفات.
أولاً: قال: (حثالة) وسماهم حثالة، والحثالة هي ما يتبقى من الإناء بعد شربه، وهو إشارة إلى أن هؤلاء القوم هم بقية من الناس، ذهب صفوة الناس وبقى كدرهم، وذهب خيرهم وبقي شرهم، وذهب ما ينتفع به وبقيت الحثالة في قاع الماء، وسماهم في الحديث الآخر الذي أشرت إليه في البخاري: {حثالة كحثالة الشعير لا يباليهم الله تعالى بال} لأنهم حثالة.
ثانياً: قد مرجت عهودهم وأماناتهم، فقد فقدت الأمانة من قلوب الرجال حتى ليقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، وهذا دليل على شيوع النفاق، لأن فقدان الأمانة والوعد الصادق، والحديث الصادق البعيد عن الكذب؛ كل ذلك من علامات النفاق والمنافقين.
ثالثاً: واختلفوا فصاروا هكذا، إذاً: نحن أمام مجتمعات قد تشتت أهواؤها وفقدت الاعتصام بالكتاب والسنة، فصارت تتبع الهوى، ولذلك اختلفوا فصاروا هكذا، أي: متداخلين متفرقين لا يجمعهم جامع، ولا يؤلف بينهم رابط.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صفات أخرى في أحاديث أخرى غير هذا الحديث لا يتسع لها المقام، ومجموع الصفات يوحي بأن هذه الأحاديث يمكن أن توجد في حالتين: الحالة الأولى: أن توجد في البلاد كلها من أقصاها إلى أقصاها، وهذا لا يكون إلا قبيل قيام الساعة -والله أعلم-، لأن هناك أحاديث وردت أنهم مع هذه الصفات {يتسافدون تسافد الحُمُر وعليهم تقوم الساعة} .
فدل على أن هذه الأحاديث تصف وضعاً يكون في الناس قبيل قيام الساعة، وفي مثل هذه الحالة يشرع للإنسان الاعتزال المطلق، هذه هي الصورة أو الحالة الأولى التي توجد فيها هذه الصفات.
الحالة الثانية: أن توجد هذه الصفات في مجتمع من المجتمعات، أو بيئة من البيئات، وليست عامة في البلاد كلها، وهذا يمكن أن يوجد في أي مكان، وحينئذ فعلى الإنسان أن يجاهد في إصلاح هذه المجتمع، والعودة به إلى الصورة الصحيحة المشروعة، لأن الإصلاح غير متعذر حينئذٍ، بخلاف الحالة التي تكون قبيل الساعة، فإن الإصلاح فيها متعذر، إذا: فسد الزمان شرع للإنسان حينئذ أن يقبل على خاصته، ويدع أمر العامة.
والإقبال على الخاصة يقصد منه عدة أمور منها: أن تقبل على نفسك فتصلحها، وتصقلها بالعلم النافع والعمل الصالح، والاعتصام بالكتاب والسنة.
ومنها: أن تقبل على أهلك ومن يلزمك القيام بشئونهم من أولادك وأقاربك فتصلح ما تستطيع من أمر دينهم وأمر دنياهم.
ومنها: أن تقبل على خاصتك من أصحابك وأصدقائك وذويك، الذين تصافيهم المودة، وهم يسمون خاصة في لغة العرب، فتقول خاصة فلان أي: أصدقائه الذين يخصونه، كما قال الشاعر: إن امرءاً خصني عمداً مودته على التنائي لعندي غير مخفور فالإنسان الذي يصافيك المودة يسمى خاصتك أو من خاصتك، ولذلك ورد في الحديث وإن كان ضعيفاً وإنما المقصود الدلالة اللغوية وقد رواه الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لكل نبي خاصة، وخاصتي أبو بكر وعمر} والحديث ضعيف، وإنما المقصود: أن العرب تعرف كلمة الخاصة بمعنى أصحابك الذين يخصونك، فتقبل عليهم وعلى توجيههم وتربيتهم وتعليمهم، وتدع أمر العامة وما هم فيه من الهرج والمرج، هذه هي الحالة الأولى العامة التي تشرع فيها العزلة وهي عند فساد الزمان.