ما يستفاد من هذه المواقف

في هذين الموقفين عدة وقفات: أولاً: تغيير المنكر سراً وعلانية: حال العلماء, وأن علماء هذه الأمة كان منهم عبر العصور كلها, من يتعمد الخليفة إذا وقع في المنكر علانية, فكان ينكر عليه علانية, فمن أسر في المنكر أسررنا له في الإنكار, ومن أعلن أعلنا له, وليس صحيحاً أن يعلن المنكر ويشاع ويذاع ويتسامع به الناس قاصيهم ودانيهم, ثم يطلب من الإنسان ألَّا ينكر إلا خفية وإلا سراً, بل كان العلماء يتعمدون أن المنكر إذا كان مشهوراً معلناً معروفاً للناس فإنه لا بد أن ينكر علانية, أرأيت منكراً يذاع مثلاً في إذاعة أو في جريدة أو في شاشة ويسمعه مئات الألوف بل ملايين, كيف يمنع عالم أو داعية أن ينكره؟ وقد يكون الذين يستمعون إلى هذا العالم أو الداعية بالنسبة لمن رأوا المنكر قليلاً من كثير وغيضاً من فيض.

فكان العلماء يتعمدون المنكرات المذكورة المشهورة المعلنة, فينكرونها علناً لئلا تغتر الأمة, لأن الأمة لو رأت المنكر يقع والعالم يسكت ظنت أنه مباح, وطالما استشهد كثير من الناس بأن شيئاً من المنكرات مباحاً أو حلالاً لأنه موجود وما أنكره أحد ولا سمعنا من انتقده.

وكم من إنسان استحل الربا أو الغناء أو التدخين أو الصور الخليعة، أو غيرها من المنكرات, بحجة أنها موجودة بلا نكير ولا أحد يقوم بتغييرها أو الحديث عن تحريمها.

ثانياً: الوقفة الثانية: ميزة العلماء عن غيرهم: إن كثيراً من العلماء وخاصة أولئك الذين جعلهم الله قوامين بالحق شهداء لله, شهداء بالقسط ناطقين بالصدق محيين لما دُرس من أمر النبوة, أولئك العلماء إنما تميزوا بأنهم تخلوا عن الدنيا وزخرفها ومناصبها, فما عادت الدنيا زهرة في عيونهم, ما بالوا بها جاءت أم ذهبت, همّ أحدهم أن يُرضي الله عز وجل ولو أسخط الناس, وأن يقول كلمة الحق ولو خسر ماله أو منصبه أو حتى حياته وليس ذلك بخسارة, فإن هذا هو عين الربح، أرأيت من فارق هذه الدنيا ثم أفضى إلى {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54-55] هل يقال عنه: إنه خسر الدنيا؟ بل هذا والله باع الفاني بالباقي, وباع الخزف بالذهب, وباع دنياً لا خير فيها ولا قرار لها بآخرة وجنة عرضها السماوات والأرض.

يقول أحدهم: أمتّ في الله نفساً لا تطاوعني في المكرمات لها في الشر إسرار وبعت لله دنياً لا يسود بها حق ولا قادها في الحكم أبرار وإنما جزعي في صبية درجو غفل عن الشر لم توقد لهم نار قد كنت أرجو زماناً أن أقودهم في المكرمات فلا ظلم ولا عار واليوم سارعت في خطوي إلى كفنٍ يوماً سيلبسه برٌ وكفار بالله يا صبيتي لا تهلكوا جزعاً على أبيكم طريق الموت أقدار تركتكم في حمى الرحمن يكلؤكم من يحمه الله لا توبقه أوزار قد يخاف أحدهم على أولاده من أن يربَّوا على غير الإسلام أو يقادوا إلى غير الفضيلة, فيستودعهم الله عز وجل, ثم يلتفت إلى من حوله من الأقارب والأهل والجيران، فيقول لهم: وأنتم يا أهيل الحي صبيتكم أمانة عندكم هل يهمل الجار إن العالم الذي تحرر من الدنيا وتمرد على قيودها وأوهاقها ليس في فمه ماء، فهو يقول الحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

ويعجبني أن أذكر لكم في هذا المجال والمقام قصة طريفة جداً لعالم من علماء الشام, يقال له: الشيخ صالح العقاد , جاءه الباشا وهو في الجامع الأموي جالس بين طلابه ماداً رجله, وكانت في ركبته ألم, فكان إذا جلس في الحلقة مدّ رجليه, والطلاب محيطون به محدقون من حوله وكان عالماً جبلاً لا يأخذ الدنيا ولا يقبلها, فجاء هذا الأمير أمير الشام من قبل الأتراك, ودخل المسجد وكان معه شرط وأعوان وجلاوزة وخدم وحشم وهيلمان وأصوات وإزعاج ونشيج وضجيج, فلما أقبل بدأ الطلاب يتلفتون وينظرون, أما هذا العالم فظل على درسه مقبلاً على شأنه, معرضاً عن هذا السلطان القادم, وبدأ يتكلم في أمور تتعلق بالأمير والنصيحة وهو لا يلتفت ولا ينظر إليه, وهو على حاله ماداً رجله, وقف السلطان ثم وقف ثم وقف حتى ملّ! ولم يلتفت إليه هذا العالم, فبعد أن ذهب إلى القصر بعث إليه بذهب كثير, وقال لأحد خدمه وعبيده: خذ هذا فادفعه للشيخ فلان, فلما جاءه وهو في حلقته مد إليه هذا الذهب وقال: هذه صلة من الأمير, قال له: سلّم لي على الأمير, وقل له: إن الذي يمد رجله لا يمد يده, الذي ظلت رجله ممدودة وأنت واقف عنده هذا لا يمد يده يستجليك ويأخذ منك, لأنه أكبر من أن يأخذ شيئاً من الدنيا, ولذلك ليس في فمه ماء, إذا رأى الخطأ قال هنا خطأ ولا يبالي, لأنه لن يخسر شيئاً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015