من أهم وأعظم خصائصه وخصاله أنه كان صلباً في الحق, شجاعاً لا يهاب ولا يخاف في الله تعالى لومة لائم, وكان مهيباً تقشعر النفوس والقلوب لمرآه, ولذلك يقول عنه بعض المؤلفين: كان لا يراقب غير الله عز وجل في استخراج الحقوق ودفع المظالم ورفعها، أي: لا يأبه بسلطان ولا كبير ولا صغير, إذا علم أن هناك رجلاً مهضوماً مظلوماً سارع إلى رد المظلمة، وأخذ حقه واستخرجه بكل وسيلة سواء كان الذي ظلمه كبيراً أو صغيراً غنياً أو فقيراً مأموراً أو أميراً, لا يهاب في الله لومة لائم.
وإلى جوار ذلك كان خطيباً مفوهاً يهز أعواد المنابر، حتى إنه كان أخطب أهل زمانه, له إشراقة في البيان، وقوة في الحجة، وبسطة في العلم والجسم، وجهارة في الصوت، وثباتٍ في العقل وحسن ترسل, فكان آية من آيات الله تعالى في قوة الخطابة وفصاحة العبارة.
يقول الإمام ابن عبد البر -رحمه الله- يقول: إن الإمام المنذر بن سعيد خرج يوماً من الأيام وكان قاضياً -كما ذكرت لكم- والقاضي لا يسلم من وجود أعداء ومناوئين ممن حكم عليهم أو أخذ الحق منهم، وقد يكون البعض له شأن ومكان, وكان مثله لا يكاد يخرج إلا معه حرس, أما المنذر بن سعيد فإنه كان يخرج كثيراً, فرآه رجلاً صالحاً يوماً من الأيام على دكان المسجد في آخر الليل, قد خرج لقيام الليل أو الصلاة أو نحو ذلك, فقال له: يا إمام! إنك لمغرور بنفسك وفي الناس المحكوم عليه -أي: الذي حكمت عليه- وفيهم رقيق الدين، وأنا أخشى عليك, وكيف تفعل ذلك؟ فقال المنذر بن سعيد لهذا الرجل: ويحك أنىّ لي لمثل هذه المنزلة أنىّ لي بالشهادة, إنني لأتمنى الشهادة وأتوق إليها, لكن هيهات هيهات لمثلي أن ينالها! ثم قال: إنني لا أخرج لأعرض نفسي لذلك, ولكني أخرج متوكلاً على الله تعالى, وأنا أعلم أني في ذمته, فاعلم يا هذا أن قدر الله تعالى نافذ لا محيد عنه ولا وزر دونه, وهذا يذكرنا بالقصة التي حصلت للعز بن عبد السلام وقد سبق أن ذكرتها في موضوع (سلطان العلماء) فإن كلاً من الرجلين قد طلب الشهادة وتاقت نفسه إليها, وتعرض لها في غير موضع.