قوله تعالى: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) [الإسراء:111]

ففي صدر هذه الآية ذكر الثناء على الله تعالى بالحمد، والحمد: هو الإقرار بالنعم لله عز وجل والثناء عليه بها -كما سبق في أول هذه الدروس في أكثر من موضع- فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وسائر من يتجه إليه الخطاب بأن يقول الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، فمن صفاته أنه لم يتخذ ولداً وذلك لأن الكون كله ومن فيه ملكه، وفي قبضته وأمره، فليس له منهم ولد ولا والد ولا زوجة ولا قريب من هذا الوجه؛ وإنما كلهم عبيده، والقريب منهم إليه هو من تقرب إليه بطاعته وعبادته وحبه.

فنفى سبحانه وتعالى ما ادعاه بعض المشركين أن لله ولداً، كما زعم اليهود أن عزيراً ابن الله، وكما زعمت النصارى أن المسيح ابن الله، وكما زعمت العرب أن الملائكة بنات الله، كما ادعوا أن لله سبحانه وتعالى زوجة من الجن تلد له الملائكة -كما في أساطير العرب والجاهلين- فنفى ذلك كله بقوله: {وَقُلِ الْحمد لله الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} [الإسراء:111] ؛ وذلك لأن الولد وإن كان بالنسبة للبشر كمال؛ إلا أنه بالنسبة للخالق نقص.

فبالنسبة للبشر: فإن من يكون له ولد أكمل عندهم من الذي يكون عقيماً لا ولد له، هذا بالنسبة للناس؛ وذلك لأن حصول الولد للإنسان، إنما هو لبقاء ذكره في الدنيا وعدم انقطاعه، ووراثته من بعده، ومساعدته على أموره إلى غير ذلك من المقاصد المنتفية في حق الله جل وعلا؛ لأن الله تعالى هو الذي يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وهو الغني الغنى المطلق الذي لا يحتاج معه إلى شيء سبحانه؛ بل كل شيء مفتقرٌ ومحتاج إليه.

فلهذا مجد الله نفسه بأنه لم يتخذ ولداً.

وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:111] : أيضاً نفى هنا ادعاء المشركين بأن لله شريك في الملك، إذ يدل صنيعهم في عبادتهم لغير الله تعالى؛ على أنهم يظنون أن لله تعالى شريكاً في ملكه يستحق العبادة معه، وقد نفى الله تعالى هذا في مواضع كثيرة نفى وجود شركة في ملكه -جل وعلا- على الإطلاق، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22-23] فنفى وجود الشرك له سبحانه وتعالى في الكون، أو أنهم يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.

أما الملك البشري: فهو ملك مؤقت، وهو من الله تعالى وإليه، فلست خالقاً لهذا الشيء، ولا مالكه ولا متصرفاً به على الحقيقة؛ حتى جسدك إنما المتصرف فيه حقيقةً هو الله عز وجل.

وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء:111] : أي ليس لله تعالى ولي يتعزز به من ذل؛ لأنه هو العزيز الذي من أراد العزة؛ التجأ إليه ولاذ به فعز، ومن تخلى عنه ذل، ولو كانت مقاليد الدنيا كلها بيده.

فليس لله تعالى ولي من الذل له ولي؛ ولكن ليس من الذل، أي: ليست ولايته جل وعلا لمن والاه؛ يتعزز به من ذل، أو يتقوى به من ضعف، أو يتكثر به من قلة.

كيف والخلق كلهم طوع أمره! كيف وهو إذا أراد شيئاً قال له: "كن فيكون" فليس له ولي من الذل يتقوى به ويتعزز به من ذل، إنما له ولي برحمته لعباده؛ حيث يوالي منهم من يستحق الولاية، كما قال عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257] وقال سبحانه: {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {الله مولانا ولا مولى لكم} تبعاً لقول الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] فقال صلى الله عليه وسلم: {الله مولانا ولا مولى لكم} والولاية في أصل اللغة العربية، تعني: القرب تقول: فلان ولي فلان، يعني: قريبه الذي يليه، ومنه ابن العم يسمي ولي، وهكذا الزوج، والسيد، والقريب والجار ومنه: المطر، إذا نزل المطر مرة تلو الأخرى متتابعاً يسمى "الولي" يقال: قطر الولي، أي: المطر المتتابع الذي ينزل ثم ينزل بعد ذلك مباشرة ولا يبطئ، فهذا يسمى ولياً؛ لأن بعضه يلي بعض، أي: يأتي بعده مباشرة.

والله عز وجل من أسمائه "الولي" وهو ولي للمؤمنين، ولي لهم، أي: أن المؤمنين في حفظ الله تعالى، فهو يحفظهم ويرعاهم ويكلؤهم، ويعينهم، ويعاقب من أراد بهم سوءاً أو شراً من عدوهم -عاجلاً أم آجلاً- ويحقق لهم سؤالهم وفي الآخرة أيضاً يكون الله سبحانه وتعالى وليهم بكل خير؛ فيخفف عنهم الحساب، ويجعلهم في الجنة، ويغدق عليهم النعم، فهذا كله من ولايته سبحانه لعباده المؤمنين.

وكذلك العبد المؤمن: هو ولي لله سبحانه كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] وأولياء الله عز وجل: هم المتقربون إليه بعبادته وطاعته، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي في صحيح البخاري: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} أي: عبداً ولياً مخلصاً تعاديه وتحاربه، فمعناه: أن الله سبحانه وتعالى أعلن عليك الحرب أيضاً.

ولك أن تتصور حال عبد مخلوق محتاج إلى الله تعالى في كل نفس وفي كل حركة، وفي كل مكان، وفي كل نبضة قلب، وفي كل دفقه دم؛ ومع ذلك يعلن ربنا عليه الحرب، كيف يكون حال هذا الإنسان والعياذ بالله لا تسأل عن حاله: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} أي: أعلنت عليه الحرب، لو علم أحدنا أن مسئولاً قد أبغضه، أو كرهه، أو حاربه؛ لربما ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ويقول: أين أفر؟ فكيف إذا علم أن دولة من الدول تحاربه! فكيف إذا علم أن الله جل وعلا يحاربه؟! ولهذا الإنسان يحذر ويباعد -دائماً وأبداً- أن يعادي أهل الخير، أو يبغضهم أو يسيء إليهم أو يضرهم بشيء قل أو كثر، لماذا؟ لأنك لا تدرى! فيمكن أن يكون هذا ولياً وأنت لا تدري! لأن الولاية لا يوجد لها لافتة مكتوبة على جبين الإنسان قد يكون الإنسان مقصراً في أعماله الصالحة؛ ومع ذلك فهو في حقيقته ولي لله سبحانه وتعالى، وقد يكون الإنسان زاهداً عابداً، ولكنه ليس بولي؛ لأن قلبه فيه مرض، أو لأنه مُدِلٌّ بعمله معجب بطاعته فالولاية سر، فلا أحد يعلم أن هذا ولي لله أو ليس بولي كذلك، فهذا شيء لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى الولاية؛ فهو كاذب.

فلو أن واحداً قال: أنا ولي، نقول له: أنت كاذب، لو كنت ولياً لما ادعيت هذا الأمر! لكن الولاية:- سر يعلمها الله سبحانه وتعالى، فكل مؤمن تَجَنَّبْ أن تعاديه أو تؤذيه بشيء -حتى لو كان شكلياً- خشية أن يعلن الله تعالى الحرب عليك، وقد جاء في حديث ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وأظنه في الطبراني: يقول الله سبحانه وتعالى: {إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب} إني لأثأر أي: أغضب وأنتصر وأنتقم لأوليائي، كما يثأر الليث الحرب، أي: كالأسد الجسور الذي ثار وغضب؛ فزمجر وهجم على عدوه، وهذا الحديث ولو لم يصح، فإن معناه صحيح من حيث: أن الله تعالى يغضب لأوليائه ويثأر لهم من عدوهم.

إذاً: فإن الله تعالى ولي للمؤمنين في الحفظ والنصر والتوفيق والتسديد والدفع، والمؤمنون الصادقون أولياء لله تعالى على الحقيقة لا على الادعاء، وإنما المنفي في الآية هو: الولي من الذل {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء:111] لكن له وليٌ يعبده ويدعوه، والله سبحانه تعالى يحفظه وينصره.

وقوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء:111] : التكبير: هو تعظيم الله تعالى بالقول والقلب والفعل.

فأما التعظيم بالقلب: فأن يكون الله تعالى في قلبك أكبر من كل كبير، فتعظم الله تعالى وإذا ذكرت الله تعالى؛ اطمأن قلبك، فتحبه وتغضب لانتهاك حرماته.

وأما التكبير باللسان: فهو أن تقول: (الله أكبر) .

وأما التكبير بالفعل: فهي العبادات التي يكون فيها التعظيم لله عز وجل؛ كالسجود -مثلاً- والركوع.

فإن هذه الأشياء فيها معنى التكبير والتعظيم لله عز وجل {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء:111] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015