تعاظم بعض الأعمال

ومن ذلك: أن منهم من يَعْظُمُ في عينه عمل من الأعمال الظاهرة, ويغتر بهذا العمل حتى ولو كان هذا العمل على خلاف السنة, أو على خلاف الشريعة، ربما تعلق بعض الشباب بالجهاد في سبيل الله تعالى، والجهاد عمل عظيم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {إن في الجنة مائة درجة، بين كل درجة والتي تليها كما بين السماء والأرض أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله} وقال عليه الصلاة والسلام عن الإسلام: {وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله} وجعل الله تعالى الجهاد من أعظم الأعمال، كما قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:19] ثم قال في الآية التي تليها {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة:20-22] .

فالجهاد باب عظيم من أبواب الجنة، ولكن مع ذلك الجهاد له ضوابطه وأسبابه وأعماله, فالمجاهد ينبغي أن يتعلم آداب الجهاد حتى يعلم كيف يجاهد؟ وأين يجاهد؟ ومتى يجاهد؟ وتحت أي راية يجاهد؟ من ذلك أن المجاهد لابد أن يجاهد نفسه على صلاح النية, فكم من قتيل بين الصفين الله تعالى أعلم بنيته، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} .

وقد قتل رجل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {هو في النار، هو في النار} ثم ذكر أنه رآه يعذب في بردة غلها، وآخر كان منافقاً قاتل مع النبي عليه الصلاة والسلام، فلما اشتدت جراحه اتكأ على السيف، وطعن به بطنه ثم اتكأ عليه حتى خرج من ظهره, فمات منتحراً -والعياذ بالله تعالى- وقد حكم النبي عليه الصلاة والسلام على هؤلاء بأنهم من أهل النار.

إذاً لا بد من تصحيح النية, ولا بد من العلم والمعرفة, ومع ذلك لا بد من إذن الأبوين.

كثيراً ما يأتيني بعض الشباب، يقولون لي: نريد الذهاب إلى الجهاد، أين؟ أمس كانوا يذهبون إلى أفغانستان, ونِعمَ ما فعلوا, فقد سطروا أعظم آيات البطولة والرجولة والفداء والاستعلاء على الدنيا، ورأينا الشباب الذين غرقوا في الملذات والترف، وتوقعنا أنه لا تقوم لهم قائمة, إذا هم ينتزعون أنفسهم انتزاعاً، ويذهبون من النعيم والسرور والراحة والدعة, بل من أماكن اللهو واللغو واللعب مع أقرانهم وزملائهم، حتى يبحثوا عن الموت في سبيل الله تعالى على ثرى أفغانستان أو جبالها وترابها ووديانها, ولهم في ذلك أقاصيص وبطولات امتلأت بها بطون الكتب والأشرطة.

المهم أنهم أمس كانوا يجاهدون في أفغانستان, أما اليوم فمجموعات من الشباب المجاهدين في البوسنة والهرسك, أو في طاجكستان، أو في غيرها من بلاد الإسلام, التي ترفع فيها راية الجهاد, ونِعمَ ذلك.

فإنه مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: {أن الجهاد قائم إلى قيام الساعة} على رغم كل الظروف والتخلف الذي يمر بالأمة, ولهذا جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: {لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيه، وإذا استنفرتم فانفروا} .

ولكن ينبغي أن يعلم أن الجهاد لا بد فيه من إذن الأبوين، فبعضهم قد يخرج للجهاد دون إذن الأبوين: {فقد جاء رجل فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال قال: إيمان بالله ورسوله, قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين, قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله} فقدم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله تعالى, وجاء رجل من اليمن فقال: يا رسول الله، جئت إليك من اليمن مجاهداً وتركت أبويّ يبكيان, قال: {ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما، ارجع ففيهما فجاهد} .

وأخرج عمر رضي الله عنه رجلاً في الغزو، فجاءه أبوه يشتكي ذهاب ولده، ويشتكي عمر رضي الله عنه، فلما سمع عمر رضي الله عنه مقالته بكى، وأرسل إلى الجيش أن يعود فلان إلى أبيه، فلازمه حتى مات، فبعضهم قد يأتيه الشيطان من جهة هذا الأمر الذي هو خلاف الشريعة، فيزين له -مثلاً- فريضة من الفرائض ولو كان غيرها ألزم منها وأوجب، فيغريه بذلك حتى يتركه، وربما قال له: إن هذا الأمر فرض عين، وهي من المسائل العويصة التي لا يستطيع أن يفتي فيها إلا أئمة أهل العلم، وربما عاب من لا يفعل ذلك ولا يعمله وعده من القاعدين.

أبا خالد انفر فلست بخالد وما جعل الرحمن عذراً لقاعد أتزعم أن المؤمنين على الهدى وأنت مقيم بين لص وجاحد وربما تحدث عن مشاهد فقال: رأيت كذا، وفعلت كذا, وحصل لي من الكرامات كيت وكيت , وربما ادَّعى بعضهم ما ليس له، وقد رأيت أحدهم وقد ربط يده وزعم أنه أصيب في أحد المعارك، ولما تحققت منه تبين لي أنه كان يتشبع بما لم يعط، ويدعي ما لم يحدث له.

تحدث بعضهم فقال: خرجنا مع الجماعة إلى قتال الروم، فقام رجل من الروم قوي شديد بأسه، لا يعرض له شيء من المسلمين إلا ضربه بسيفه, حتى خافه المسلمون خوفاً شديداً، فتصدى له رجل من بين المسلمين ملثم، فعرض له فضربه حتى قطعه، ثم انصرف إلى المعسكر.

وهو ملثم, قال: فأقبلت عليه ففتحت لثامه لأنظر من هو، فإذا هو الإمام الجهبذ الفقيه المحدث المتصدق عبد الله بن المبارك، فغضب لذلك غضباً شديداً, وقال: حتى أنت يا فلان تشنع علينا -أي: تشهر بنا وتفضحنا بأعمالنا- فانظر كيف سعى إلى التستر بعمله وعدم إظهاره، ثم انظر كيف قدر واستطاع أن يجمع بين الأعمال الصالحة كلها، من العلم والفقه والجهاد والصدقة، وغير ذلك من الأعمال الصالحة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015