إن الإنسان لم يصبح إنساناً مكرماً مختاراً بقوته مثلاً، ولو كان ذلك كذلك لكان الفيل أقوى منه، ولم يصبح إنساناً بجماله وحسن ثيابه, ولو كان ذلك لكان الطاوس أجمل وأحسن مظهراً منه.
ولم يكن إنساناً -مثلاً- بعظمه وضخامته، وقوة جسمه وفخامة هيئته وجثته, وإلا لكان البعير أكبر وأضخم منه، وكما قال أحد الشعراء الجاهليين: ترى الرجل الضعيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير لقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير بغاث الطير أكثرها فراخاً وأم الصقر مقلات تزور فالعبرة ليست بالكثرة ولا بالقوة, ولا بحسن الظاهر, وإنما العبرة بالعقل والقلب، العبرة بباطن الإنسان لا بظاهره، ولو كانت قوة الإنسان وحسنه وفخره بقوته الجنسية وقدرته على السباق, لكانت بعض الطيور حتى العصافير أقدر على هذا الأمر منه، كما يقول علماء الحيوان والطيور.
إنما قوة الإنسان في إيمانه وعقله، ولو كانت قوة الإنسان في ماله لكانت الجبال أكثر منه قيمة, لأن فيها معادن الذهب والفضة وغير ذلك, ولكانت آبار النفط والبترول أعظم ثمناً وقيمةً من هذا الإنسان المكرم المختار, لأن فيها الذهب والدينار والدولار.
إن قيمة الإنسان هي في باطنه، في عقله وقلبه، ولقد كان صدِّيق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه دقيقاً نحيفاً، ومع ذلك لو وزن إيمان أبي بكر رضي الله عنه بإيمان الأمة كلها لرجح إيمانه عليهم، وكان عبد الله بن مسعود، وهو من السابقين الأولين، ومن المقربين إلى سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، ومن أقرب الناس إلى الله تعالى زلفى، كما قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: [[لقد علم المحبوبون من أصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن ابن مسعود من أقربهم إلى الله تعالى زلفى]] ومع ذلك كان صغيراً ضئيلاً دقيق الساقين، حتى إنه ربما هبت الريح فلعبت به، فضحك منه أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام فقال عليه الصلاة والسلام: {أتعجبون من دقة ساقيه!! والله لهما في الميزان أثقل من جبل أحد} .