وهاهنا علامة تحذير كبيرة! لقد أصبح هذا الهاجس هماً مخيفاً لدى الكثيرين، فينامون ويصحون على الخوف من المخبر، وعلى الخوف من أجهزة الاستخبارات، وعلى الخوف من أشياء كثيرة، وربما أصبح الرعب شيئاً قاتلاً يطحن في دوامته آلاف المخلصين؛ فهم يخافون من كل شيء، ويحسبون حسابات طويلة لكل شيء، ويقول أحدهم للآخر: لا تنطقوا إن الجدار له أُذن وأقول: كلا فهذه الكتب التي ذكرتها، وهذه الأسماء التي تلوتها، وهذه البلاغات؛ هي أحياناً مقصودة لنوع من الحرب النفسية على الناس وعلى الشعوب، خاصة على المسلمين، فهم -أعني: رجال الاستخبارات الدولية والعربية- كلهم داخلون في عموم قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] فالمؤمن لا يخاف إلا من الله عز وجل أما هؤلاء فيحتقرهم.
لقيني قبل أيام أستاذ في كلية الطب، فحادثني قليلاً، وقال: أتمنى أن تتكلم عن موضوع مهم قلت له: أي شئ هو هذا الموضوع؟ قال: موضوع: أن الناس أصبحوا يخافون من الغرب، ويخافون من أمريكا، حتى كأنها شبح، وكأنها تقدر على كل شيء؛ وتفعل كل شيء، مع أنني عشت في أمريكا، ورأيت الرجل الأمريكي يخاف من زوجته فالرجل الذي يخاف من زوجته، هل يليق بالمسلم أن يخافه؟! لا؛ بل ينبغي أن يبين للناس أن هذه الدول إنما هي مصنوعة من الكراتين، وأن الله تعالى سوف يأذن بزوالها، فينبغي ألا نخاف منها، ولا من أجهزة مخابراتها وأمنها، وتهويلها.
لقد أحدثت هذه المخاوف كثيراً من العقد النفسية، التي يجب القضاء عليها، وقديماً قال عمر رضي الله عنه: [[لست بالخبّ ولا الخبُّ يخدعني]] تبرز هذه المخاوف على لسان أحد الشعراء، وهي في الواقع هاجس في نفوس الكثيرين؛ لكنني أحببت أن أنقل لكم أبياتاً من الشعر، تعبر عن الخوف من هذا الهاجس عند أحد الشعراء، والشاعر عادة يبالغ فيقول: ومن حذري أمارس دائماً حرية التعبير في سري وأخشى أن يبوح السر بالسر أشك بحر أنفاسي فلا أدنيه من ثغري أشك بصمت كراسي أشك بنقطة الحبر وكل مساحة بيضاء بين السطر والسطر ولست أعد مجنوناً بعصر السحق والعصر إذا أصبحت في يوم أشك بأنني غيري وأني هارب مني وأني أقتفي أثري ولا أدري ويقول -نفسه- أيضاً: في زمن الأحرار أصابعي تخاف من أظفاري دفاتري تخاف من أشعاري ومقلتي تخاف من إبصاري فكرت في التفكير بالفرار من بدني لكنني خشيت من وشاية الأفكارِ وقديماً كان شاعر هارب يقول: لقد خفت حتى لو تمر حمامة لقلت عدو أو طليعة معشر فإن قيل أمن، قلت هذي خديعة وإن قيل خوف، قلت حق فشمر فينبغي أن نزيل هذه الصورة القاتمة المليئة بالمبالغة، والتي لا يمكن قبولها إلا على حد قول الله عز وجل: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:224-227] .