إن غالب المفتين من الصحابة كانوا رجالاً: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس إلخ، كما ذكرهم الإمام ابن القيم في عددٍ من كتبه وغيره، فغالب المفتين كانوا من الرجال لكن أيضاً لا يمكن أن نتجاهل دور امرأة مثل عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم وهي في سن الثامنة عشر من عمرها، وقد كانت تتعلم وهي بنت تسع وعشر وتحفظ حتى أصبحت معلمة للرجال، وقال أبو موسى رضي الله عنه: [[ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً]] .
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرجعون إليها في كثير مما أشكل عليهم، بل كانت عائشة رضي الله عنها تمارس لوناً من النقد والرد على بعض اجتهادات الصحابة رضى الله عنهم علانية، حتى جمع الإمام الزركشي انتقادات عائشة لبعض فتاوي الصحابة وآرائهم في كتاب سماه "الإجابة فيما استدركته عائشة رضي الله عنها على الصحابة" ردت على ابن عمر رضي الله عنه، وكانت مصيبة في ردها عليه حين كان ابن عمر يقول: [[اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عمر إحداهن في رجب]] فكانت تضحك عائشة رضي الله عنها وتقول: [[غفر الله لـ أبي عبد الرحمن والله ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا وعبد الله بن عمر شاهد معه، والله ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب قط]] وكان الصواب هنا مع عائشة رضي الله عنها، وقد وهم عبد الله بن عمر كما حرره جماعة من أهل العلم بالسير والتاريخ والمغازي، واستدركت على عمر رضى الله عنه، واستدركت على عمران بن حصين، واستدركت على عدد كبير من الصحابة، وقد يكون الصواب معها أحياناً وقد يكون الصواب مع غيرها.
فمن القضايا المشهورة التي استدركتها عليهم لما نقل عمر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على القتلى يوم بدر وتكلم معهم، وقال: {هل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا، فقالوا: يا رسول الله! هل تكلم من أجساد لا أرواح لها فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يجيبون} فلما سمعت عائشة رضي الله عنها أنكرته وقالت: كلا إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقوله لهم حق، وإلا فإن الله تعالى يقول: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] فأخذت مأخذاً من القرآن الكريم، وفهمت حديث النبي صلى الله عليه وسلم على وجه آخر، وردَّت على من روى ذلك من الصحابة، إضافة إلى قضية قطع الصلاة بمرور المرأة -أيضاً- أنكرته عائشة وقالت كما هو في حديثها المعروف قالت لبعض الصحابة: [[ساويتمونا بالحمر والكلاب]] لأنه روى بعضهم، كما في حديث أبي ذر {يقطع صلاة الرجل: المرأة، والحمار، والكلب الأسود} .
فأنكرت عائشة هذا وقالت: [[ساويتمونا بالكلاب، والحمر، والله لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا نائمة على السرير إلى قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتها، والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح]] تقول في رواية أخرى، تعتذر أنها تبسط رجلها؛ لأنها لا تره وقت سجود النبي صلى الله عليه وسلم حتى يلمسها بيده فتكف رجلها لتمكنه من السجود.
وهذا باب يطول وأقول: إننا لا يمكن أن نغض النظر عن هذا الدور الكبير الذي قامت به أم المؤمنين عائشة، وعن العدد الهائل من المرويات التي روتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أتيح لها في ذلك ما لم يتح لغيرها حتى من الرجال، وإذا كنا نقول: إن ميزة الرجال كثرة صحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن عائشة باعتبارها خليلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقعيدة بيته، وصاحبته في منزله، وزوجه في فراشه قد أتيح لها من إمكانية التعرف على أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأخباره وأخلاقه ومعاملاته وقضاياه خاصة في المجالات الخاصة والشخصية والبيتية ما لم يتح لغيرها قط، ونقلت من ذلك ما لم ينقله غيرها، ولها في ذلك قصص وطرائف وعجائب لو جمعت في كتاب لكان ذلك خيراً كثيراً.