وهذه المسائل المتعلقة بالواقع أقرب إلى الاختلاف من المسائل الفقهية، فالمسائل الفقهية فيها نصوص -أحياناً- وفيها أصولٌ عامة، أما المسائل الواقعية فقد لا يوجد فيها نص يعالج المسألة بذاتها، وقد يدخلها شخص تحت نصٍ، ويدخلها غيره تحت نصٍ آخر، وأكثر هذه المسائل الواقعية تخضع لأبواب السياسات الشرعية، التي تتفاوت فيها الأنظار ويختلف فيها النُظَّار، وتحتاج لمن يعالجها ويعاينها إلى ثلاثة أمور، قد لا تتوفر للكثير ممن يبحثون في هذه الأمور: الأمر الأول: العلم بالشرع.
فإن الله تعالى قال: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء:12] وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما تركت أمراً يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا أنبأتكم به} وقال بعض الصحابة: [[ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم طائراً يقلب جناحيه في السماء، إلا بين لنا منه علمًا]] فقد علمهم كل شيء.
فلا بد أن يكون من يتصدى للمسائل الواقعية الحادثة متدرعاً بالعلم الشرعي، من معرفة الأصول العامة، والنصوص الشرعية، والقواعد الكلية، التي هي كالنور الهادي لمعرفة ما حدث وجدَّ بين الناس.
الأمر الثاني: المعرفة بالواقع.
فأنت تريد أن تحكم على واقع، وكيف تحكم على شيء لا تعرفه؟ أرأيت لو أن شخصاً استفتاك في مسألة، ولو كانت من صغار المسائل، هل كنت تستطيع أن تفتيه في هذه المسألة وأنت لم تتصور سؤاله ولم تعرف الحادثة؟ هبها مسألة في الطلاق، أو في النكاح، أو في الحيض، أو في اللحوم أو في غيرها، لم تكن لتفتيه في ذلك ولو كنت تحفظ القرآن، والحديث، وتعرف الأصول والقواعد؛ إلا بعد أن تتصور الواقعة تصوراً صحيحاً، والفقهاء يقولون: الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، ولهذا في علم الأصول قسَّم العلماء الأحكام إلى قسمين: القسم الأول: الأحكام التكليفية: وهي الواجب والمحرم، والمندوب، والمكروه، والمباح.
والقسم الثاني: الأحكام الوضعية، المتعلقة بأفعال المكلفين، من صحتها أو فسادها أو غير ذلك، وهذا لا يتسنى إلا بمعرفة أحوال الناس وأفعالهم، وإعطائها الحكم الذي تستحقه، فلا بد لمن يتصدى لمسائل الواقع؛ أن يكون عنده معرفةً بالواقع أو الوقائع التي يتكلم عنها.
القسم الثالث: أن يملك الإنسان سعة العقل والفهم والإدراك.
فإن الكثيرين يؤتون من ضعف عقولهم، وضعف مداركهم، وقلة فهمهم، فيطبقون الأشياء على غير مجالاتها، ويحكمون في الأمور بغير حكم الله ورسوله فيها؛ بسبب أنهم لا يملكون القوة في التصور، خاصةً إذا تصورت أننا في هذا الزمان نواجه أحوالاً وأوضاعاً ومسائل وأموراً في غاية التعقيد والتشابك والصعوبة، وهي بحقٍ تعد من النوازل، التي تحتاج -في كثيرٍ من الأحيان- إلى أن يتنادى علماء الأمة وفقهاؤها، إلى مؤتمرات ومجامع ومجتمعات ليتباحثوا ويتناقشوا ثم يخرجوا فيها برأيٍ موحد، أو بآراءٍ متقاربة.
ولذلك لما جاء التتار مثلاً إلى المسلمين في القرون السابقة، في القرن الخامس والسادس والسابع، جاء التتار ثم أظهروا الإسلام، ووجد معهم أئمة ومؤذنون وقضاة، وكانوا يحملون المصحف، ويقرءون القرآن، ويصلون، ووقع عند الناس لبس عظيم، فكان من الناس من يقول: كيف نقاتلهم وهم مسلمون؟ ومن الناس من يقول: نقاتلهم لأنهم معتدون وبغاة، واختلف الناس في ذلك، حتى بعض العلماء والمنسوبين إلى العلم، إلى أن قام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فأصدر فتواه الشهيرة في أمر التتار، وهي موجودة في مجموع الفتاوى، وأزال اللبس الموجود عند الناس في ذلك، ونبه إلى أنه لا يمكن أن يحيط بمثل هذه المسائل إلا من عرف الشرع وعرف الواقع، ثم أفتى في ذلك بفتواه الشهيرة المعروفة.