هذه المحاضرة -أيها الأحبة- ليست نشرة أخبار، تتكلم عن أحوال المسلمين في هذا البلد أو ذاك، وليست تحليلاً أو تقريراً يصف الأوضاع وُيشخّصها ويربط الأمور بعضها ببعض، وأنَّى لنشرة إخبارية، أو تحليلٍ، أو تقريرٍ، أن يُلم بمصائب أمة تسكن فطاع عريضة من الأرض، أو يتحدث عن كارثة نزلت بما يقارب ألف مليون إنسان.
إننا نستطيع أن نُشخِّص مصيبة فرد واحد، أو كارثة أسرة بعينها، ونتكلم عن ذلك بما يبكي العيون، ويحرِّك جامد القلوب، ويهز الضمير والوجدان.
وأنت تسمع أحياناً قصيدة عربية، أو نبطية، يتكلم فيها الشاعر عن مصابه الشخصي، وهو سجين، أو مريض، أو طريد، أو شريد، أو فقير، أو مات أهله وأقرباؤه وذووه، فلا تملك الدمعة من عينه، ومن هو الذي يستطيع -مثلاً- أن يسمع قصيدة أبي ذؤيب الهذلي حين مات بنوه السبعة بالطاعون في عام واحد، فأنشأ قصيدة طويلة معروفة: أمن المنون وريبها تتوجعُ؟ ولدهر ليس بمعتبٍ من يجزعُ أودى بنيَّ فأعقبوني حسرةً بعد الرقادِ وعبرةً ما تقلعُ ولقد حِرصتُ بِأن أُدافعَ عنهُمُ وإذا المنيةُ أقبلت لا تُدفعُ وإذا المنية أنشبت أظفَارَها ألفيتُ كُل تَميمةٍ لا تنَفعُ فالعين بعدهم َكأنَّ حداقها كحِلتْ بِشوكٍ فهي عُورُُ تَدمعُ وتجلُدي للشامتينَ أُرِيهُمُ أني لِريبَ الدهرُ لا أتزعزعُ من هو الذي يستطيع أن يسمع هذه القصيدة، فلا يتأثر قلبه أو يهتز أو يملك عينه من الدمع؟ أو يسمع قصيدة ذلك الشاعر الآخر، الذي شُرِّد وطُرد من بلده، وأُبعد عن أهله وأحبابه وجيرانه، فكتب قصيدةً بدمع العيون بل بدم القلوب، يصف فيها حاله: طال اغترابي وما بيني بمُقتضب والدهرُ قد جدَّ في حربي وفي طلبي والشوقُ في أضلعي نارٌ تذوبني ما أفتكَ الشوقَ في أضلاعِ مُغتربِ كم ذا أحنُّ إلى أهلي إلى ولدي إلى صِحابي وعهد الجَد واللعِبِ إلى المنازل من دينٍ ومن خُلقٍ إلى المناهلِ من علمٍ ومن أدبِ إلى المساجدِ قد هامَ الفُؤادُ بها إلى الآذان كلحن الخُلد في صببِ الله أكبر هَل أحيا لِأسمعها إن كان ذلكَ يا فوزي ويا طربي إني غريبُُ غريبُ الروح منفردُُ إني غريبُُ غريبُ الدارِ والنسبِ ألقى الشدائدَ ليلي كُلهُ سهرُُ وما نِهاري سِوى ليلي بِلا شُهُبِ أكابد السقم في جسمي وفي ولدي ,في رفيقةَ دربٍ هدها خببِ من يستطيع أن يسمع تلك القصيدة الطويلة، فلا يحزن ويأسى ويشارك الشاعر في مُصابه، أو من ذا الذي يستطيع أن يسمع قصائد كثيرة من هذا القبيل، أو كلماتٍ منثورة، تحكي مصيبة فردٍ، أو أسرة إلا ويتأثر بها؟ فما بالك إذا كان الحديث عن مصاب أمةٍ بأكملها، ثم هذا المصاب الطويل العريض، ماذا تأخذ منه وماذا تذر؟ أتتحدث عن مصاب الأمة، وهى تتحطم تحت سنابك خيول العدو؟ أم تتحدث عن مصاب هذه الأمة وهى تموت جوعاً، وعرياً، وفقراً، ومسغبةً على حين أنها أغنى الأمم وأثراها وأكثرها أموالاً وأولاداً؟! أم تتحدث عن مصاب هذه الأمة حين يقتل بعضها بعضاً، ويسفك بعضها دم بعض؟! أم تتحدث عن مصيبة هذه الأمة حين تفارق دينها وتجهل حدود ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم؟! أم تتحدث عن هذا أم عن ذاك أم عن غيرهم؟ إن الذي يريد أن يتكلم عن مصائب هذه الأمة في دقائق أو ساعات، أو حتى في كتاب، يحاول أمراً مُحالاً، ولكنني في هذه الكلمة والجلسة أريد أن نتذاكر معكم نماذج من هذا وذاك، ليس لمجرد التلذذ بنكء الجراح، وتهييج القلوب على المصائب، فإن هذا لا يقدم ولا يؤخر؛ وبالتأكيد فهذا الحزن الذي يملئ قلوبنا لا يمكن أن يشبع جائعاً، ولا يروي ظمئاناً، ولا يؤمن خائفاً، ولا يسلّح أعزلاً، ولا يعلِّم جاهلاً، وإنما نريد أن نتحدث لنضع أيدينا على الداء والعلة، ونحاول أن نتعرف على الدواء والعلاج، ثم لنعرف موقعنا نحن من هذه الخريطة الحمراء بالدم، السوداء بالقحط والجفاف، البيضاء بأكفان الموتى، لندرك أن ما أصاب أخاك اليوم قد يصيبك غداً، وإنما أُكُلت يوم أكلُ الثور الأبيض.