إفراد الله تعالى بالعبادة

لكن! هل يكفي كل هذا؟ أما منا إنسان يؤمن بأن الله موجود، ويؤمن بأن الله هو المتصرف في الأكوان كلها، ويؤمن بأن الله سميع عليم بصير خالق بارئ مصور إلى آخر هذه الأسماء، ويؤمن بالصفات وبالأفعال كذلك؛ فهل نقول: إنه حقق لا إله إلا الله إذا اقتصر على ذلك، أم لا بد من أمر رابع عظيم؟

صلى الله عليه وسلم بل لا بد من أمر رابع عظيم جليل، ألا وهو: (إفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة) وهو: توجيه جميع أعمال الإنسان ونشاطاته إلى الله عز وجل، وهذه الكلمة التي هي (لا إله إلا الله) فسرها الأنبياء بقولهم: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود:2] {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] .

إذاً: الإله هو: المعبود الذي تألهه القلوب، وتطمئن وتسكن إليه النفوس فتتوجه إليه بالعبادة بأنواعها؛ وهذا هو موضع الخصومة بين الأنبياء وأممهم.

ولذلك قال المشركون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [ص:5] وقد كان أبو جهل وأبو لهب يعرفون أن هناك إلهاً في السماء، وما كانوا يوجهون عبادتهم إليه، بل كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ولم يكن اعتقادهم بأن اللات والعزى هي التي خلقت الكون، أو هي المتصرفة، أو التي تحاسبهم يوم القيامة، كلا! بل كان اعتقادهم أن هذه الأشياء تقربهم إلى الله زلفى، فكانوا يعتبرون الله رب الأرباب، والإله الأعظم، ويعتبرون هذه الأصنام آلهةً صغيرة تقربهم إلى الله؛ لأنهم يقولون: نحن بأدناسنا، وأرجاسنا وذنوبنا، وخطايانا؛ لسنا على مستوى أن نتوجه إلى الله مباشرة، وأن ندعوه مباشرة، فلا بد من وسائل تقربنا إليه، فكانوا يلبون في حجهم فيقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك.

إذاً: كانوا يعترفون بربوبية الله، ويعترفون بوجوده، لكنهم يصرفون العبادات إلى غيره فلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: {قولوا: لا إله إلا الله} عرفوا أنه لا يقصد بمعنى (لا إله إلا الله) أنه لا خالق إلا الله، لأنهم يعرفون سلفاً أنه لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا قادر على الاختراع والإرجاع إلا الله؛ يعرفون أن هذا ليس هو المعنى المقصود من وراء ذلك، ويعرفون أن معنى لا إله إلا الله التي طالبهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقولوها، يعني: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] اتركوا اللات والعزى، واتركوا حلفاءكم من الجن، الذين كنتم تتقربون إليهم بألوان من العبادة؛ واصرفوا صلاتكم ونسككم وحجكم ومحياكم ومماتكم لله، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:162-163] وقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] .

ولذلك: فإنهم قاوموا هذه الدعوة ووقفوا في طريقها، ومن المؤسف جداً -أيها الإخوة- أن يكون أبو لهب، وأبو جهل وأمية بن خلف، وغيرهم من أساطين الكفر والجاهلية؛ أعرف بالمفهوم الصحيح للا إله إلا الله من كثير من المسلمين، الذين يقولونها اليوم دون أن يعرفوا حقيقة المعنى الذي دلت عليه.

فلو سألت بعض المسلمين اليوم -ولا أقول العوام؛ بل حتى بعض المثقفين-: ما معنى لا إله إلا الله؟ لقال: معناها: لا خالق إلا الله، وآخر يقول: معنى (لا إله إلا الله) يعني: لا قادر على الاختراع والإبداع إلا الله، وثالث يقول: لا متصرف إلا الله؛ وهذا كله تفسير غير صحيح، وإن كان داخلاً في الإقرار والإيمان بالله، إلا أن هذا لم يكن موضع خصومة بين الأنبياء وأممهم؛ وإنما المعنى الصحيح للا إله إلا الله، هو: أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده؛ ولذلك فإن هذه الكلمة تتضمن نفي العبادة عمن سوى الله، وإثبات العبادة لله وحده فهي كما يقول العلماء: نفي وإثبات؛ تنفي العبادة عن جميع المعبودات، وتثبت العبادة لله تبارك وتعالى وحده بلا شريك فهي إيمان بالله، وكفرٌ بالطاغوت: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] فالعروة الوثقى هي: الكفر بالطاغوت والإيمان بالله.

فالمعنى الصحيح لهذه الكلمة التي يطالب كل مسلم أن يقولها، ويتعبد بها، ويدعو إليها هو: الإيمان بالله والكفر بالطاغوت.

والإيمان بالله يشمل: الإقرار بوجوده، والإيمان بربوبيته وتصريفه للكون، والإيمان بأسمائه وصفاته وأفعاله، والإيمان بأنه لا يستحق العبادة إلا هو سبحانه، وتوجيه العبادة له وحده.

والكفر بالطاغوت يشمل: نفي جميع الآلهة المدعاة من دون الله؛ فهو ركن من أركان الشهادة.

وأنت لو نظرت في واقع المسلمين اليوم؛ لوجدت أنهم قد وقعوا في ألوان وألوان من الشرك، منه ما هو شرك أكبر مناف لأصل هذه الكلمة وحقيقتها، ومنه ما هو دون ذلك مما ينافي كمال الإيمان والتوحيد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015