وما زال الله عز وجل يتقبل دعوات الداعين، ويجيب استغاثة الملهوفين، متى ما كانوا في دعائهم صادقين، وإلى ربهم مخلصين، ومن الموانع سالمين، ولعل من الطريف أن أذكر لكم القصة الذي يذكرها بعض المؤرخين، والتي حدثت في الأندلس وفيها أسوة وعجب وعبرة.
يذكر بعض المؤرخين أن حاكماً من حكام الأندلس يقال له: أبو الوليد بن جهور، وكان أمير قرطبة، إحدى كبار المدن الأندلسية، حاول بعض جيرانه أن يعتدي عليه وهو يحيى بن ذي النون ويأخذ ملكه في قرطبة، فاستنجد أبو الوليد بن جهور بحاكم من ملوك الأندلس، يقال له: المعتمد بن عباد، وكان ملكاً قوياً شاعراً أديباً مشهوراً، فجاء المعتمد بن عباد فأنجده وقضى على عدوه، ولكن المعتمد بن عباد لما رأى قرطبة، وما فيها من المياه والخضرة والأموال والترف؛ طمع فيها، وبدأ يخطط للسيطرة عليها، وأدرك ذلك ملك قرطبة أو أمير قرطبة ابن جهور، فذكر المعتمد بن عباد بالعهود والمواثيق التي بينهم، وذكره بالله، ولكن المعتمد بن عباد كان مصراً على احتلال قرطبة، وفعلاً تم للمعتمد بن عباد بعد طول كيد وتدبير، ما أراد من حكم قرطبة، وأخذ أمراءها فطردهم منها، وصادر أموالهم، وقتل منهم من قتل، وسجن منهم من سجن، فخرج بنو جهور، أمراء قرطبة، بلا مال ولا جاه ولا سلطان، أذلاء خائفين، مرضى مذعورين.
وبعد أن خرجوا منها التفت الأمير إلى هذا البلدة التي طالما تمتع بحكمها، وعرف أنه لم يخرج منها إلا بسبب دعوات المظلومين، وبسبب الدماء التي سالت ظلماً وعدواناً، وبسبب الأموال التي أخذت بغير حق، وبسبب ظلمه للناس وحيفه في معاملتهم، عرف ابن جهور هذا فالتفت إلى قرطبة، فرفع يديه إلى السماء وقال: اللهم كما أجبت الدعاء علينا، فأخرجتنا من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، ونعمة كنا فيها فاكهين، فأجب الدعاء لنا فإننا اليوم مسلمون مظلومون.
فدعا الله على المعتمد بن عباد وخرج بنو جهور، وظل المعتمد بن عباد ردحاً من الزمن يحكم قرطبة، ويتمتع بما فيها من الترف، حتى إنهم يقولون: إنه بلغ من ترف المعتمد بن عباد؛ أنه كان عنده جارية جميلة كان يحبها وكان اسمها اعتماد، وفي يوم من الأيام هذه الجارية أطلت من إحدى نوافذ القصر، فشاهدت بعض النساء البدويات يحملن على ظهورهن القرب، قرب السمن وغيره يبعنه في الأسواق، وقد هطل المطر من السماء، وأصبحت الأرض فيها من الوحل والطين، فكان هؤلاء النساء البدويات يطأن في الوحل والطين، وعلى ظهورهن القرب، فأعجب هذا المنظر هذه الجارية، وقالت للأمير: أريد أن أفعل مع بناتي ومع الجواري مثلما تفعل هؤلاء النساء، فقال الأمير: الأمر هين، وأمر بالكافور والمسك وماء الورد فخلط بعضه ببعض، حتى صار مثل الطين في أرض القصر، ولكن ليس من الطين والمطر والوحل، وإنما هو من المسك والكافور والورد، هكذا يكون الترف، ثم جاء بقرب وحزمها بالإبريسم أي بالحرير، ثم حملتها هذه الجارية ومن معها على ظهورهن، وبدأن يطأن في هذا الطين، أو بالأصح في هذا الورد والكافور والمسك، وتم لهن ما أردن، إلى هذا الحد بلغ ترف المعتمد بن عباد، ولكن تلك الدعوة التي أطلقها ابن جهور لا تزال محفوظة، دعوة المظلوم لا تزال محفوظة، والإنسان إذا دعا الله عز وجل وهو موقن، يجبه الله عز وجل إذا كان مظلوماً.
وإني لأدعو الله حتى كأنما أرى بجميل الظن ما الله صانع ولذلك فإن ملك النصارى هدد المعتمد بن عباد، وطلب منه مع دفع الجزية أن يتخلى عن بعض الحصون والقصور، فرفض ووجد نفسه مضطراً أن يستنجد بحاكم من الحكام المرابطين وهو يوسف بن تاشفين فأرسل إليه يستنجده، فجاء يوسف بن تاشفين ودخل قرطبة، وخاض معركة ضد النصارى تسمى موقعة الزلاقة، وانتصر على النصارى وطردهم، ولكنه بعد أن انتصر عليهم، تقلبت الأمور حتى وجد يوسف بن تاشفين نفسه مضطراً إلى السيطرة على قرطبة، وقبض على المعتمد بن عباد وأولاده، فقتل بعضهم على مرأى من أبيهم ومسمع، وأودع المعتمد بن عباد السجن، في مدينة في المغرب يقال لها مدينة أغمات، حتى جلس فيها عشر سنوات مسجوناً، ثم انتهت هذه السنوات العشر بموته.
وكان هذا الرجل في المغرب في أغمات مشرداً من كل شيء، القيود في يديه ورجليه، ويرى بناته اللاتي كن بالأمس يطأن بالمسك والكافور، يطأن في الطين والوحل اليوم، وهن يغزلن للناس -يشتغلن بالغزل- من أجل دراهم بسيطة لا يملكن شيئاً، وينظرن نظرة الحياء والاستحياء والخجل، فبكى بكاءً مراً ثم قال: يخاطب نفسه في إحدى المناسبات، وقد فرح الناس واستبشروا بالعيد، قال يخاطب نفسه: فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً فساءك العيد في أغمات مأسورا ترى بناتك في الأطمار جائعةً يغزلن للناس ما يملكن قطميرا برزن نحوك للتسليم خاشعة أبصارهن حسيرات مكاسيرا يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا من بات بعدك في ملك يسربه فإنما بات بالأحلام مغرورا أيها الإخوة، ولا تزال الدعوات تستجاب من رب الأرض والسماوات، ولذلك فإن عليكم أن تدعوا الله عز وجل وأنتم موقنون بالإجابة، كم نجد في عصرنا الذي نحن فيه من قوم ظلموا فدعو فاستجاب الله لهم، قوم وقعوا في ضر فدعو الله فاستجاب لهم.