والناس أصناف: منهم من يضيع عمره في الباطل واللهو والحرام، وهذا لا يخرج من عمره بالكفاف، بل إنه لو تدارك وقته وضاعف أعماله لا يمكن أن يستدرك ما مضى، ولذلك يقول الشيخ الإمام أبو إسماعيل الهروي -رحمه الله-: "إن الوقت سريع التقضي أبي التأتي بطيء الرجوع".
هذه ثلاث مسائل: الوقت سريع التقضي، فسرعان ما ينتهي، أبي التأتي، فإنه لا يستسلم وينقاد للإنسان إلا بمجاهدة، بطيء الرجوع، فإن ما مضى من الوقت لا حيلة في رده بحال من الأحوال.
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها ما مضى فات، لا تحسب وتقول: أربعين سنة، خمسين سنة، ستين سنة، هذه كلها ذهبت ما كأنها لمح بصر ولا ومضة، ولا لحظة، مضت بما فيها من خير أو شر، والمؤمل غيب، لا تدري هل كتب لك يوم أو شهر أو سنة أو عشرة الله أعلم، ولك الساعة التي أنت فيها.
يسر المرء ما ذهب الليالي كأن ذهابهن لها ذهابا سبحان الله! إذا جاء البرد قلنا متى يأتي الحر حتى نسلم من البرد؟ فإذا جاء الحر تضايقنا منه، إذا جاءت أيام الاختبارات قلنا: متى تنتهي حتى نقبل على الإجازة؟ وهكذا، كلما جاءت مناسبة تمنينا ما بعدها، ولذلك يقول أحد المفكرين أو أحد الأدباء: إن الكلام عن قضية المستقبل، مثل حزمة من العلف مربوطة في عنق فرس، فهذا الفرس يركب ويجد الحزمة أمامه؛ لأنها تركض معه، فالمستقبل شيء لا حقيقة له؛ لأن هذه اللحظة الذي تعيشها الآن كانت قبل قليل مستقبلاً.
إذاً ما هو المستقبل؟ المستقبل: هو اللحظة التي تعيشها.
أما الأمور البعيدة فأمرها إلى الله تعالى.
جدير بالإنسان أن يقف وقفة محاسبة، إذا كان لك طموحات ولك آمال وتطلعات، تريد أن تعمل صالحاً وتريد أن تتوب وأن تكفر عن سيئاتك، وتريد أن تكون طالب علم، وأن تنفع الناس، وأن تقوم بعمل خير اجلس خمس دقائق واسأل نفسك كم عمرك الآن؟ خمس وعشرون سنة، ثلاثون سنة، هل عملت شيئاً خلال المدة هذه؟ لم تعمل شيئاً.
هل تتوقع أن هناك شيئاً جديداً سوف يحركك فتعمل ما لم تكن تعمل بالأمس؟ أبداً، يا إخوة، الذي لا يعمل في وقت الشباب لا يعمل في وقت الهرم والشيخوخة، الشباب هو وقت القوة والفتوة، وقت النشاط والطموح، وقت التوقد والإشراق والاندفاع، فمن لم يعمل في شبابه ويستثمر أيامه؛ فينبغي أن يدرك أنه لا يعمل في شيخوخته، ولذلك طال حنين الشيوخ للشباب وتمنوا عودته: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب ذهب الشباب فما له من عودة وأتى المشيب فأين منه المهرب؟