ثم يجب أن تعلم أنه -كما أسلفنا- ليس من شرط التدين أن يكون الإنسان معصومًا؛ بل قد يكون الإنسان متدينًا وهو عصبي، هذا وارد، كما أن إنساناً قد يكون موظفًا كبيرًا وهو يحمل نفسية شديدة, أو يحمل حسًا مرهفًا, أو يكون عنده نوعٌ من العصبية، والحدة والحرارة في طبعه.
وقد يكون الإنسان موظفًا في المرور، ويتعامل -مثلاً- مع القادمين والغادين والرائحين وهو كذلك, وقد يكون موظفاً يستقبل الجماهير وهو كذلك, وقد يكون مدرسًا وهو كذلك, وقد يكون إذاً لا تتصور أن جو المتدينين جوًا مثالياً، إنما هم من المجتمع، فهم كغيرهم, وأنت لو أخذت أي قطاعٍ في المجتمع, كقطاع الصحة, أو قطاع المرور, أو قطاع الشرطة, أو قطاع التعليم, أو قطاع الإعلام, أو أي قطاع، لو أخذته لوجدت أنه يوجد فيه نوعياتٍ شتى, منهم المتدين, ومنهم غير المتدين, ومنهم الأمين, ومنهم غير الأمين, ومنهم ذو الأخلاق الفاضلة, ومنهم من ليس كذلك, ومنهم العصبي, ومنهم الهادئ, إلى غير ذلك.
فهذا هو المجتمع أصلاً، وهؤلاء ما خرجوا وما جاءوا من كوكبٍ آخر, إنما خرجوا من هذا المجتمع، ولهذا فيهم وفيهم , ومن الظلم لهم أن تفترض أنهم يجب أن يكونوا مثاليين, هذا ظلمٌ وصعبٌ ومستحيل, بل ينبغي أن تعتقد أنهم كغيرهم، يحصل منهم ما يحصل من غيرهم، وإن كانوا أفضل من غيرهم من حيث أنهم قد يكونون قابلين للتوجيه, قابلين للإرشاد, قابلين للمناقشة بشرط أن يكون هذا كله من منطلق النصيحة.
وأعني بذلك: أن البعض -أحياناً- قد يلقى من إنسان متدين موقفاً معيناً، فيعلن عليه أنك فعلت، وفيك وفيك، ويريد من هذا الإنسان أن يقبل منه.
فمن الطبيعي إذا صار مثل هذا؛ أن هذا المتدين قد يظن أن في قلبك حقدًا على المتدينين، وأنك وجدتها فرصةً للتنفيس عما في نفسك, وحينئذٍ لن يقبل منك، وهذا أمرٌ طبيعي لكن لو انفردت به وقلت له بينك وبينه, يا أخي! حصل كذا, وأنا أعتقد أنه كان يجب أن تكون الأمور كذا, وأنت موضع نظر, وربما ينسب إلى غيرك هذا الفعل, وربما خطؤك لا ينسب إلى الملتزمين جميعًا، وإلى غير ذلك, فبالتأكيد سيقبل بك.
وأمس حدثني إنسان أنه رأى موقفاً لم يعجبه من بعض المتدينين، فانفرد بهذا الإنسان الذي أخطأ في نظره، وحدثه، فقال: وجدت تجاوباً كبيراً ورائعاً.
وبالمقابل هناك مسئوليةً كبرى -أيضاً- على كل الأطراف، فيجب أن يكون هناك اتصالٌ بين كل الطبقات والنوعيات, فأصلاً كلمة هؤلاء ملتزمون وهؤلاء غير ملتزمين؛ يجب أن ننظر فيها, يجب أن نكون جميعاً ملتزمين, ويجب أن نكون جميعاً معنيين بأمر الإسلام, ومعنيين بتطبيق أخلاقيات الإسلام وأحكام الإسلام، على أمورنا الخاصة والعامة, حتى ذلك الإنسان المقصر, أليس مطالبًا شرعًا بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ بلى, والله تعالى عندما قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] هل هذه الآية خاصة بالملتزمين مثلاً؟ كلا! والرسول عليه السلام لما قال: {من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه} هل كان يخاطب فقط الملتزمين أو المتدينين؟ لا بل يخاطب كل من يؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نبي مرسل من عند الله تعالى.
فكل هؤلاء مخاطبون بأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، بأيديهم إن استطاعوا, ثم بألسنتهم, فإن لم يستطيعوا -فعلى أقل تقديرٍ- ينبغي أن ينكروا المنكر بقلوبهم, وأن يعلم الله تعالى من قلوبهم أنهم له كارهون, حتى ذلك الذي يقع في المنكر مطالبٌ بأن يساهم في تغييره، ويسعى في إزالته بقدر ما يستطيع.
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنبٌ فمن يعظ العاصين بعد محمد إذاً: يجب أن يكون هناك مبادرة من الجميع, بالتعاون على البر والتقوى, والاتصال بين سائر أفراد المجتمع, وما أدري ما هو السبب الذي يوجد نوعًا من الفجوة بين من يسمون بالملتزمين, وبين بقية أفراد المجتمع, لماذا لا يكون هناك اتصال؟ ولماذا لا يكون هناك مجالس؟ ولماذا لا يكون هناك حوار؟ وأنا أعلم أن الكثيرين ممن يقام لهم وزن ويحسب لهم حساب, لديهم استعداد أن يسمعوا أي اقتراح, أو ملاحظة, أو نقد, أو حوار, أو سؤال, أو نقاش؛ حتى يتم الوصول إلى الحق, وحتى نستطيع أن نضمن ولاء الجميع للإسلام, وللدعوة, وللخير وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن الإنسان إذا لم يجد سبيلاً للتعبير عن وجهة نظره وعن ملاحظاته؛ ربما يتحول إلى إنسانٍ حاقد, أو كاره, أو مبغض, لمن يسميهم بالملتزمين, أو من يسميهم بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر, أو من يسميهم بالمتدينين, أو ما شئت من الأسماء.
لكن إذا كانت القنوات مفتوحة، والمجالات قائمة، وإمكانية الصلة والحديث والحوار ممكناً، فلماذا لا يجربها الجميع؟ ولماذا لا نسعى كلنا جميعاً إلى العمل على ربط كل طبقات المجتمع بعضها ببعض, وتعارف أفراد المجتمع, والاتصال فيما بينهم.
وجرب يا أخي! هذا الكلام الذي أقوله فهو كلامٌ نظري؛ لكن جرب أنت، اذهب إلى من شئت من الناس، من المتدينين, أو ممن لك عليهم ملاحظة, أو ممن تعتقد أنهم ربما يسمعون منك, وحدثهم عما في نفسك، فستجد إن شاء الله تعالى أن هناك تجاوباً، ورغبة في سماع وجهة النظر الأخرى, ورغبةٌ في سماع الرأي الآخر, ورغبةً في تبادل الحديث فيما يخدم المصلحة العليا وهي مصلحة الإسلام.