فنحن ننتمي وننتسب إلى هذا الدين الذي أكرمنا الله تبارك وتعالى به, وأي انتسابٍ أعظم وأكرم وأفضل من أن تكون أنت محسوبًا من المسلمين {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] .
فهذا الاسم الرباني الإلهي: تاجٌ على رأسي وعلى رأسك, وشرفٌ لا يقدِّر أحدٌ قدره, إلا الله عز وجل.
إنه علامة على كل معاني الخير والكمال, فكل خيرٍ أو كمالٍ فهو في الإسلام, وكل ضررٍأو نقصٍ أو عيبٍ فهو مما جاء الإسلام بذمه والنهى عنه.
إذاً: هذا الاسم الشريف العظيم الكبير الرباني، الإسلام هو التاج الذي نكلل به رؤوسنا, ونفتخر بالنسبة إليه, فليس فخرنا لأننا عرب, فإن العروبة بحد ذاتها قد يدخل فيها من هم حطب جهنم.
لعمرك ما الإنسان إلا ابن سعيه فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب فقد رفع الإسلام سلمان فارسٍ وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب ليس فخرنا بالعروبة بذاتها، فإن العروبة بذاتها لا تكفي؛ ما لم يكن الإسلام سرها, وليس فخرنا أيضًا بتاريخ نردده؛ فإن أجدادنا الذين مضوا, مضوا بمفاخرهم, ومضوا بجهادهم, ومضوا بصدقهم, وكتب التاريخ لهم أروع الصحائف, في كل المجالات، في العلم, وفي العمل, وفي الدعوة, وفي الجهاد, وفي الإخلاص, وفي النزاهة, وفي كل الكمالات مضوا بها, ولا ينفعك أن تكون أنت من أحفادهم فتكتفي بترديد مآثرهم, فتصبح إنسانًا كنتياً، أي: يتكلم أن أجدادنا كانوا وكانوا وكانوا.
كن ابن من شئت واكتسب أدبًا يغنيك محموده عن النسب إن الفتى من يقول هأنذا ليس الفتى من يقول كان أبي والنار -أحياناً- تخلف الرماد كما هو معروف, فإذا كان أجدادنا السابقون نارًا تضيء وتشرق، وفيها تدفئة, وخير, ونور, فقد يكون من أحفادهم من انقلب وتحول إلى رمادٍ تذروه الرياح, وقد لاحظ هذا المعنى شاعر الهند محمد إقبال فقال: أرى نارًا قد انقلبت رمادًا سوى ظل مريض من دخان فليس فخرنا لأننا أبناء رجال, وأحفاد رجال, الفخر هو بما يقدمه الإنسان وينجزه، سواءً في الدنيا أو في الآخرة, فأما في الدنيا فإن العالم اليوم لا يحترمك احترامًا تاريخيًا, إنما يحترم القوة, ويحترم العمل, ويحترم الإنجاز, وماذا ينفعنا إذا صرَّح متحدثٌ رسمي أو غير رسمي في الشرق، أم في الغرب بأننا نحترم الإسلام ونقدره، ونعتبره دينًا تاريخيًا له فضلٌ على الحضارة الإنسانية؟ ماذا يقدم هذا وماذا يؤخر؟ لا ينفع شيئًا.
إنها مجرد إبرة للتخدير, لكن الذي ينفع هو الذي يملك قوة، ولا أعني بالقوة فقط قوةُ السلاح, بل كل ألوان القوة, حتى القوة العلمية, والفنية, والإدارية, والعملية, قوةُ وحدةِ الكلمة واجتماع الصف, كل ألوان القوة هي التي أصبح العالم اليوم يحترمها.
وكذلك الحال في الدار الآخرة: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان:41] {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [البقرة:48] {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان:33] ومن حكمة الله تعالى أن يعلن الله تعالى لنا في القرآن أن بعض أقارب الأنبياء كانوا من الكافرين, ومن المعذبين بالنار أيضًا, كما هي الحال بالنسبة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، كان والده من أهل النار, كما صرح بذلك القرآن الكريم، فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} [الأنعام:74] وفي الآية الأخرى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114] .
وفي الصحيح: {إن إبراهيم يلقى أباه يوم القيامة وعليه غَبَرة وَقَترة, فيقول له: يا أبت! ألم آمرك فعصيتني؟ فيقول: الآن لا أعصيك, فيذهب إبراهيم وكأنه يريد أن يشفع فيه, فيقول الله تعالى له: يا إبراهيم إني حَرمتُ الجنة على الكافرين} .
إذاً: العبرة في الدنيا وفى الآخرة ليست بالأمجاد الغابرة, ولا بالتاريخ الماضي أو بالنسب أو بالأرض, إذ أن ولادة الإنسان في هذه الأرض أو تلك، لم يكن باختياره، وليس له فيه يد, كما أن العبرة لا تكون بلون الإنسان ولا بأي صفةٍ أخرى من الصفات الشكلية الذاتية التي قد لا يكون للإنسان أصلاً يدٌ في اختيارها, إنما العبرة بعمل الإنسان.
فعمل الإنسان هو الذي يحدد موقعه في الدنيا, وهو الذي يحدد مستقره في الدار الآخرة, فإذا انتسبنا نحن إلى الإسلام؛ كانت هذه النسبة الحقيقة التي اختارها الإنسان ورضيها لنفسه، ثم لم يكتف بمجرد أن يكون انتسابه للإسلام وراثياً, كون أبيه أو أمه مسلمين؛ بل حقق هذه النسبة التي ورثها بالتطبيق العملي لهذا الانتساب, وأن يصدق هو في تطبيق هذا الدين والعمل به، والدعوة إليه, حتى يعرف أن كونه مسلمًا ليس أمراً عفوياً, أو أمراً وراثياً, أو أمراً بيئياً, وإنما هو أمرٌ رضيه الإنسان لنفسه، واختاره وارتضاه وآمن به, وصدق بفعله ما وجده في واقعه أو في بيئته.