مأخذ آخر على تعامل الناس مع هذه الأحداث: ضعف التوكل.
لقد كشفت هذه الأحداث عن ضعف توكل الناس على ربهم، وعن شدة تعلقهم بالأسباب والماديات، وهذا هوالفيصل بين الإيمان والنفاق.
لما جاء الأحزاب وأحاطوا بالمدينة، وزلزل المؤمنون زلزالاً شديداً بانت الحقائق، فالمنافقون قالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] وقالوا: هذا محمد يعدنا بكنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب لقضاء الحاجة.
أما المؤمنون لما رأوا الأحزاب وادلهمت الأجواء وتكهربت، وأحيطت المدينة المنورة بقوة لا طاقة ولا قبل لهم بها، قالوا: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] فالإيمان حقيقة تتكشف مع شدة الأحداث، تكشف الأحداث عن قوتها وصلابتها وصمودها، أو يبين أن الإنسان قلبه والعياذ بالله خواء من الإيمان، ليس فيه إلا الخوف والرعب والفزع أن يتخطف بكرة أو عشياً.
والإيمان قرين التوكل، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23] {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123] هودٌ عليه السلام حين جمعوا له قال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوآخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود:56] ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، فهذه القوة التي تجمعون، والمؤامرات التي تدبرون، هي بيد الله عز وجل، ولوشاء أن يحبطها أحبطها، فأنا متوكل على الله تعالى ربي وربكم وربها، فتحداهم وقال: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:55] لا تنتظروني ولا تمهلوني، وكل ما في أيديكم فاصنعوه، فأنا أملك القوة التي لا تملكون {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود:56] .
لا بد -أيها الإخوة- أن نعرف حجم الأسباب المادية، وأن القوة لله جميعاً، وأن المنع بيده، والإعطاء بيده، والنفع بيده، والضر بيده.
كم هومؤسف أن الواحد منا يردد بكرة وعشياً: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ولكنه -عملياً- يشعر بأن الحول والقوة بيد فلان أو فلان، أو الدولة الفلانية أو الدولة العلانية، وكم هو مؤسف أن يقول الانسان منا بكرة وعشياً: حسبنا الله ونعم الوكيل.
ثم تجده يتعلق بغير الله، أو ينتظر من غير الله، أو يتوكل على غير الله.
وكم هومؤسف أن الواحد منا يقول دبر كل صلاة: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذات الجد منك الجد.
ثم يعتقد أن المنع أو العطاء أو الضر أو النفع بيد أحد غير الله عز وجل.
فالخلق كلهم أدوات ينفذون ما أراده الله تبارك وتعالى منهم، والله تعالى يجري قدره بما يشاء.