الوظيفة الثانية وهي مهمة جداً: وهي أن السنة تأتي مبينة ومفسرة لكتاب الله تعالى، ولذلك يقول مطرف بن عبد الله أحد التابعين، يقول رضي الله عنه: [[والله ما نريد عن القرآن بديلاً، ولكننا نريد من هو أعلم منا بالقرآن]] أي: أننا حين نبحث عن السنة ونعمل بها ونأخذ بها، ليس معنى ذلك أننا نبحث عن شيء غير القرآن، لكننا نبحث عن أحد أعلم منا بالقرآن، نتبعه في معرفة القرآن، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بمراد الله تعالى بكلامه، فبيَّنه وفسره وأخذته عنه الأمة.
وكذلك يقول يحيى بن أبي كثير، ويقول الإمام الأوزاعي إمام أهل الشام يقولان -كما ذكر البيهقي في كتاب المدخل-: السنة تقضي على القرآن، والقرآن لا يقضي على السنة.
وهذه الكلمة لها معنى لا بد من فهمه قبل أن يسارع الإنسان بقبولها أو ردها، فإن معنى قولهم: السنة تقضي على القرآن، معناه -كما ذكر الإمام البيهقي رحمه الله: أن السنة جعلها الله تعالى للقرآن مبينة له وموضحة مراد الله تعالى فيه، وليس المعنى أن شيئاً من السنن يأتي على خلاف ما في القرآن الكريم.
وزاد الإمام السيوطي الأمر بياناً فقال: إن القرآن يحتاج إلى توضيح وبيان، بخلاف السنة فهي بينة بنفسها فلا تحتاج إلى أن تبين بالقرآن؛ وذلك لأن السنة كالشرح للقرآن، والعادة أن الشرح يكون أبسط وأوضح من المشروح.
فهذا معنى قولهم: السنة تقضي على القرآن أي أن السنة النبوية تبين وتوضح مراد الله تعالى في القرآن، فقد يفهم الإنسان من الآية معنى، فإذا درس السنة تبين له أن هذا المعنى الذي فهمه غير صحيح، وسيأتي أمثلة عديدة لذلك، لكن لا بأس أن أعجل بمثال منها حتى يتضح المقصود: يقول الله تعالى في محكم تنزيله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] فظاهر الآية يدل على أن قصر الصلاة مشروط بحال الخوف؛ لأنه قال: {فلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] فهذا المعنى يسبق إلى ذهن أي إنسان يسمع الآية، لكن إذا درس السنة وعرفها علم بالسنة القطعية المتواترة العملية؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يقصرون في السفر، ولو لم يكونوا خائفين.
ولذلك جاء في صحيح مسلم، عن عمر رضي الله عنه [[أنه سئل فقيل له: كيف وقد أمن الناس؟ -أي: كيف نقصر وقد أمن الناس؟ - فقال للسائل: عجبت مما عجبت منه، فسألت عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته]] أي أن قصر الصلاة في السفر صدقة تصدق الله بها عليكم في حال الأمن وفي حال الخوف، فاقبلوا صدقته واقصروا الصلاة ولو كنتم آمنين إذا كنتم مسافرين، هذا يوضح معنى أن السنة قاضية على القرآن.
ومن العجب أن أحد المرموقين وهو يناقش رسالة ماجستير في إحدى الجامعات مر بموضع نقل فيه الطالب هذه الكلمة، وقال الطالب: إن السنة تقضي على القرآن، فقال هذا الأستاذ للطالب -وقد سمعته في شريط مسجل بأذني- قال له الأستاذ: كيف تقول إن السنة تقضي على القرآن؟! هذه عبارة فيها سوء أدب مع القرآن الكريم، ثم استدرك الأستاذ قائلاً: مع أن العبارة ليست صحيحة، إلا أن الطالب هذا لم يأت العبارة من عند نفسه؛ بل هو ناقلٌ عن غيره، وناقل الكفر ليس بكافر! هكذا يقول: وناقل الكفر ليس بكافر.
!! يا سبحان الله! وهل صار قولنا: "إن السنة تقضي على القرآن" كفراً حتى نقول: ناقل الكفر ليس بكافر.
صحيح أنه قد يقصد أن الكلمة هذه: "ناقل الكفر ليس بكافر" تجري مجرى المثل، لكن حتى وضعها في هذا الموضع ركيك جداً.
بل هي كلمة صحيحة: أن السنة تقضي على القرآن بالمعنى الذي بينت، وإذا كان هذا حكم الأستاذ على الطالب؛ أن ناقل الكفر ليس بكافر، فما حكم الأستاذ على يحيى بن أبي كثير وعلى الأوزاعي اللذين قالا هذه الكلمة وقالا: "السنة تقضي على القرآن، والقرآن لا يقضي على السنة"؟! إننا نواجه في هذا العصر -أيها الإخوة- خصومة مفتعلة بين القرآن والسنة! عدد غير قليل؛ بل كثير من الكتاب والمؤلفين والمصنفين والمتحدثين، يفتعلون دائماً خصومة بين القرآن الكريم وبين السنة النبوية؛ ليتوصلوا من وراء ذلك إلى رد السنة بالقرآن الكريم.
ولم يعد هذا الأمر مقصوراً على المنسوبين إلى العلم، وإلى الدعوة وإلى الفقه؛ بل تعدى الأمر إلى كل من هب ودب، حتى إنني أحدثكم عن شاعرة لا تورد أمور الدين ولا تُصْدُرها، ولكنها كتبت مقالاً في إحدى الصحف، وذكرت فيه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، في قصة الأعمى الذي جاء وقال: {يا رسول الله! إنني ليس لي قائد يلازمني، وأنا رجل بعيد الدار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب} والحديث في صحيح مسلم، فقالت هذه الشاعرة: هذا الحديث في متنه علة.
الله أكبر! في متنه علة!! كأنك أمام أبي حاتم، أو أبي زرعة الرازي، أو الدارقطني، أو البخاري.
ما هذه العلة؟ والعلة في الواقع هي في عقلها! ما هذه العلة؟ قالت: إن هذا الحديث يعارض القرآن الكريم! كيف يعارض القرآن الكريم؟ قالت: لأن الله يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] وهذا الحديث فيه مشقة وكلفة وحرج على الناس، فهذا الحديث ليس بصحيح! بهذه السهولة يرفض عدد ممن يتكلمون اليوم دون أن يحاسبهم أحد في قضايا الإسلام، يرفضون أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقد سمعت أيضاً بأذني شخصاً، وقد عرض مجموعة من الأحاديث في صحيح البخاري، ومجموعة أخرى من الأحاديث في صحيح مسلم، لكن هذه الأحاديث لم ترق له ولم تدخل مزاجه -كما يقال-! فرفض هذه الأحاديث، ولما راجعه أحد الحضور فيها، قال بالحرف الواحد: كل حديث يعارض القرآن ضعه تحت رجلك؛ الله أكبر! وقاحة، جراءة، قلة أدب، قلة حياء! افتعال الخصومة بين القرآن وبين السنة، ثم يرفض السنة بحجة أنها تعارض القرآن، والمعارضة هي في عقولهم القاصرة، وليست في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والغريب أن بعضهم يحتجون بحديث نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الحديث سيفشو عني، فما آتاكم يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم يخالف القرآن فليس عني} وهذا الحديث غير صحيح، بل هو ضعيف فإن في إسناده خالد بن أبي كريمة، وهو ضعيف، وهو أيضاً منقطع لأن الحديث ينتهي إلى أبي جعفر وليس بصحابي وجميع طرق الحديث ضعيفة لا تصح.
ولا يحتج كذلك بحديث {إن ما أتاكم يوافق القرآن فاقبلوه، وما أتاكم يعارض القرآن فردوه} ولا يعتبر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والحديث ليس يخالف القرآن، ولكن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين معنى ما أراد الله تعالى، خاصاً أو عاماً، ناسخاً أو منسوخاً، ثم يلزم الناس ما سن بفرض الله، فمن قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله قبل.
وهؤلاء الذين يعترضون ويفتعلون الخصومة بين القرآن والسنة؛ يتهمون الأمة بأنها لم تكن تفقه كتاب الله تعالى، يتهمون الأمة وبالذات العلماء الذين دونوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بأنهم لم يكونوا يفقهون القرآن، ولذلك أثبتوا هذه الأحاديث المعارضة للقرآن، حتى جاء هؤلاء في القرن العشرين بعدما غلب الجهل وقل العلم، وغلب على الناس الهوى، فبدءوا يفهمون القرآن، ويرفضون السنة بمقتضى هذا الفهم الذي فهموه من كتاب الله تعالى، وهذه تهمة للأمة كلها في جميع أجيالها السابقة.