الحذر من الاندفاع أمام الحماس والعاطفة

القضية الثالثة: أن يحذر الإنسان من الانسياق والاندفاع أمام الحماس والعاطفة غير المنضبطة، وقد يندفع الإنسان أمام عاطفته ويلبس هذه العاطفة لبوس الدين وتعظيم حرمات الله، وأضرب لكم قصة طريفة ذكرها عدد من العلماء، وأنقل لكم لفظ الإمام البيهقي في السنن لأنه أقرب إلى إيضاح المعنى الذي أقصد إليه.

فقد روى الإمام البيهقي في سننه في كتاب الحج، جِماع أبواب جزاء الصيد قصة عن قبيصة بن جابر الأسدي رضي الله عنه وأرضاه قال: [[خرجنا حجاجاً فكثر مراؤنا ونحن محرمون -يعني جدلنا- أيهما أسرع شدّاً الظبي أم الفرس، قال: فبينما نحن كذلك إذ سنح لنا ظبي -وهم على خيولهم أو فرسانهم- فرماه رجل منا بحجر فما أخطأ خششاءه -العظم الناشز خلف الأذن- فقتله، فأسقط في أيدينا، فلما قدمنا مكة انطلقنا إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه -وعمر هو الخليفة يومئذ- قال: فدخلت أنا وصاحب الظبي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فذكر له أمر الظبي الذي قتل قال: فقال عمر رضي الله عنه: عمداً أصبته أم خطأ؟ قال: تعمدت رميه وما أردت قتله، زاد رجل -راو في القصة- فقال: عمر رضي الله عنه: لقد شرك العمد الخطأ ثم اجتنح إلى رجل -كان عمر بجواره رجل من الصحابة فمال عمر أو التفت إليه -فوالله لكأن وجهه قلب -يعني فضة- وربما قال: ثم التفت إلى رجل إلى جنبه فكلّمه ساعة ثم التفت إلى صاحب الظبي، فقال: خذ شاة من الغنم فأهرق دمها وأطعم لحمها وربما قال: فتصدق بلحمها واسقِ إهابها سقاءً، فلما خرجنا من عنده أقبلت على الرجل والآن قبيصة بن جابر في موقف المتحمس رضي الله عنه، ومن كمال عدله وإنصافه أنه ذكر لنا القصة حتى نأخذ منها الدرس، فـ قبيصة بن جابر لم يعجبه أسلوب الخليفة في حل هذه المشكلة، حيث إن عمر بن الخطاب تعرض له مشكلة في الدين فيلتفت إلى واحد من الناس ويتحدث معه ساعة، ثم يلتفت على صاحب الشأن ويقول: خذ شاة فأهرق دمها وتصدق بلحمها واسق إهابها سقاءً، فلم يعجبه هذا الأسلوب، بل تصور أن عمر سيقول له: قال الله كذا وقال الرسول صلى الله عليه وسلم كذا، أو أن يقول له على الأقل انحر ناقتك.

أيها الإخوة: قال قبيصة: أقبلت على الرجل فقلت: أيها المستفتي عمر بن الخطاب، إن فتيا عمر لن تغني عنك من الله شيئاً، والله ما علم عمر حتى سأل الذي إلى جنبه، فانحر راحلتك فتصدق بها -هذا نموذج للتشديد- وعظم شعائر الله، وأنا أضع تحت هذه الكلمة خطاً (وعظّم شعائر الله) إذاً كم وكم على مدار التاريخ وفي واقعنا القريب من يشددون على الناس بما لم يشدد الله، من باب تعظيم شعائر الله في ظنهم، والحقيقة أن تعظيم شعائر الله يكون بمخالفة الهوى في طاعة الله.

يقول: فنما هذا ذو العوينتين إليه -يعني الجاسوس سمع الكلمة وأخبر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- والله ما شعرت إلا به يضرب بالدِّرة عليّ -ودرة عمر لها شأن وخبر في التاريخ، فيضرب عمر بالدِّرة على رأسه- ويقول: قاتلك الله! تَعدَّى على الفتيا، وتقتل الحرام، وتقول والله ما علم عمر حتى سأل الذي إلى جنبه، أما تقرأ كتاب الله، فإن الله عز وجل يقول: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] ثم أقبل عليَّ وأخذ بمجامع ردائي أو قال ثوبي -وكان هذا الشاب ذكياً فطناً، فلما رأى هذا الشأن من عمر خاف فقال:- يا أمير المؤمنين! إني لا أحل لك مني أمراً حرمه الله عليك -أي: والله لا أحل لك أن تضربني ضرباً لا يحل لك، أو تعاقبني بأي لون من ألوان العقوبة لا يجوز لك- فسكت عمر وأطلقه -ولكنه لم يرضَ حتى لقنه درساً تربوياً هو في الحقيقة درس لنا جميعاً وللأجيال كلها- فقال له عمر: إني أراك شاباً فصيح اللسان، فسيح الصدر وقد يكون في الرجل عشرة أخلاق، تسعة حسنة -أو صالحة- وواحدة سيئة، فيفسد الخلق السيئ التسع الصالحة، فاتق طيرات الشباب]] .

وفي الرواية الأخرى عند البيهقي أيضاً [[وإياك وعثرة الشباب]] .

إذاً: الحل الثالث: هو عدم الاندفاع وراء هوى النفس، وإلباسه لبوس تعظيم شعائر الله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015