هذه الرسوم لم تحفظ حق الله تعالى، إذ حفظ حق الله تعالى هو بمعرفته، وعبادته، وحبه وخوفه ورجائه، ولم تحفظ حق الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ حفظ حقه صلى الله عليه وسلم هو بحبه أشد الحب، وطاعته واتباعه فيما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، والاقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم والدفاع عن دينه، ولكن هذه الرسوم خلطت الأوراق، فجعلت ما لله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم، وجعلت ما للرسول للأولياء، وجعلت ما للأولياء للمشايخ، بل لغير الصالحين أحياناً، بل جعلت حق الله تعالى لبعض المجهولين، وبعض الفجار، وبعض الفساق، وكم من ضريحٍ يزار، ويطاف به، ويعبد مع الله تعالى، أو من دون الله، وتنذر له القرابين، وتبرم عنده العقود، ويتبرك بتربته، وهو مرقد لشخص لا يُدرى أمن أهل الجنة هو أم من أهل النار، بل إن بعضهم مما يعلم بأنهم من أهل النار، لأنهم من الكافرين، وإنني أقرأ لكم خبراً مضحكاً، نُشر في عدد من الصحف، وأذاعته وكالة اسمها وكالة إينا من باريس، ونشر في عكاظ (3/6/1413هـ) ونشر في الندوة أيضاً (29/5) من العام نفسه، هذا الخبر يقول: إنه تم تأجير ضريح أحد الأولياء في بلد إسلامي، في شمال إفريقيا بمبلغ يزيد على مليون دولار، ويشمل الإيجار القبر والقبة، وصندوق جمع التبرعات والنذر، ويستأجر هذه القبور النصابون والمحتالون، الذين يحصلون على مبالغ ضخمة، توضع في صندوق التبرعات، يضعها بعض العامة من البسطاء والجهلة، الذين يتصورون أن الولي الميت، أو أن الميت ولو لم يكن ولياً سيحل مشاكله، وهناك تخصصات مختلفة يعتقدونها، فبعضها للشفاء من الصرع والجنون، والبعض الآخر لعلاج النساء من العقم، في حين يحرص النصابون والمشعوذون على نشر القصص الخيالية والأكاذيب بين الناس، لدفعهم إلى زيارة القبر، وطلب مساعدة المقبور، وبعض القبور التي يزدحم حولها الزوار لطلب العلاج من الميت تصبح -كما يقول الخبر- بؤراً للدعارة والفسق، في حين يقوم المستفيدون من هذه الظاهرة بخداع الناس، كالتكلم من وراء حجاب، أو عمل خدع بسيطة لإيهام الناس بأن الميت يسمعهم ويتحدث إليهم.
يقول الخبر: وذكر أنه في بلد إسلامي، أسيوي يتسابق أصحاب النفوذ والسلاطين في الدولة على إعطاء حق الإشراف على القبور لأقربائهم، حتى يتمتعوا بالدخل اليومي الوفير.
وفى بلد إسلامي آخر، يقع على البحر المتوسط، قبر يزوره الناس، ويطلبون من صاحبه الوساطة والمساعدة على أساس أن الميت من الأولياء، ثم تبين أن المدفون في القبر صياد سمك يوناني، وبعض المحتالين يلجأ إلى وضع كومة من الأحجار في مكان ما، ويزعم كذباً أنها قبر لولي صالح، ويبدأ الناس في تصديقهم، ويجمعون الأموال مع أنه ليس في المكان ميت ولا قبر أصلاً، ومن المعروف أن الحسين رحمه الله ورضي الله عنه، له ثلاثة قبور، قبر في العراق وقبر في الشام، وثالث في مصر، وقد ضحك بعض المتندرين وقال: لعل رأسه في العراق، وصدره في الشام، ورجلاه في مصر، وهذا على سبيل التندر والطرفة، يبذلون الأموال الضخمة عند هذه القبور نذوراً للميت، وقرابين، وذبائح، على رغم أنهم يعانون أشد ألوان الفقر، فحيهم يموت جوعاً، أما ميتهم فتذبح عنده القرابين، وتنذر له النذور! إنها أُضحوكة على هذه الأمة التي قال شاعرها الأول: يا أمة ضحكت من جهلها الأمم أحياؤنا لا يرزقون بدرهمٍ وبألف ألف ترزق الأموات من لي بحظ الميتين بحفرةٍ قامت على أحجارها الصلوات يسعى الأنام لها ويجري حولها بحر النذور وتقرأ الآيات ويقال هذا القطب باب المصطفى ووسيلةُ تقضى بها الحاجات {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:20-21] .
حتى جحا شيدت له القبور في ثلاث دول إسلامية، وفي تركيا قبرٌ لـ جحا، نصر الدين خوجة، يذهب إليه من يريدون عقد الزواج، يعقدون الزواج عند قبره تبركاً بتربته، ويطوفون حوله، وربما توجهوا إليه بالدعاء، بل وربما استقبلوه بالصلوات، وقد حدثني شهود عيان، أن بلداً إسلاميا بمجرد ما ينزل السائح إلى ذلك البلد، في المطار يخلع نعليه؛ لأنه في البلد الذي حوى تربة الولي الصالح فلان فمن تكريمه أن تخلع نعليك مند أن نزلت المطار، وتكون خاشعاً مطرقاً مخبتاً، فإذا وصلت إلى القبر رأيت العجب العجاب رأيت استقباله بالدعاء والصلاة إليه والسجود، ولقد حدثني شهود عيانٍ بذلك كله، في غير ما موضع.
ومما يذكر أيضاً في هذا، أن جريدة أو مجلة اسمها الأولى، نشرت في الحادي عشر من جمادى الآخرة، من هذا العام خبراً طويلاً عنوانه (الأولى في حضرة ولي الله الصالح الشيخ العيدروس وذكرت الجريدة أخباراً وصوراً عن الابتهاج والاحتفال عند هذا الولي، وكيف يتوجهون إليه، وينشدون الأناشيد، وترتفع الأصوات بالغناء المصحوب بالموسيقى، وتختلط الرجال بالنساء، وتكون هناك طقوس وعبادات ومشاعل، ويحضر كبار الشخصيات، تعلوهم الابتسامات التي تزاحم - كما تقول الجريدة - تزاحم أصداح نغمات الموسيقى النحاسية، التي جاءت للمشاركة في الاحتفال، وبدون تمايز اختلطت النساء بإخوانهن الرجال في لوحة بديعة أطلقوا عليها لوحة العيدروس وقد حازت تلك الجريدة قصب السبق الصحفي حيث شغلت صفحتين كاملتين لبيان الطقوس والمراسيم، التي كانت في مثل ذلك الاحتفال البدعي الوثني.
إننا قلما نسمع في دنيا المسلمين من ينتصر لحق الله تعالى، أو يقول لقومه مقالة نوح عليه السلام: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:13-14] أو يرمي قوماً بأنهم ما عرفوا الله حق معرفته، ولا قدروه، حق قدره كما قال الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] .
لكننا كثيراً ما نسمع حتى من العامة، من يقول: إن فلاناً لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إن فلاناً لا يحب الأولياء الصالحين، ولا شك أن الذي لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بمؤمن، كما يقول سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين} .
فيجب على كل مؤمن أن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يكون أحب إليه من نفسه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، بل أحب إليه من الماء البارد على العطش والظمأ الشديد، والذي يبغض الأولياء والصالحين هو أيضاً قد بارز الله تعالى بالمحاربة كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} .
لكن ما هو المقياس في حب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب الأولياء الصالحين؟ لعل هذا الذي ترميه بأنه لا يحب الرسول عليه الصلاة والسلام، قد رفض الرسوم الحادثة، التي يعبر بها هؤلاء عما يزعمونه حباً، وعبر هذا المؤمن عن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع طريقته الشرعية، التي ترضي محبوبه وتوافق هديه.