المهم أن العلماء كان لهم شأن أي شأن وتأثير في المجتمعات، وسوف أُبِرزُ هذا التأثير من خلال عدد من القصص الغريبة التي هي أحياناً أشبه ما تكون بالخيال لشدة بعدها عن واقعنا اليوم.
منها القصة التي رواها البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ولا شك أن الصحابة هم أعلم العلماء بعد الأنبياء، فـ أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ذكر أن مروان بن الحكم وكان والياً على المدينة خرج لصلاة العيد في يوم أضحى أو فطر، فلما خرج اتجه إلى المنبر ليخطب، فجذبه أبو سعيد وجره، فجر مروان نفسه من أبي سعيد، وارتقى المنبر وخطب، فقال له أبو سعيد: خالفت السنة! قال: يا أبا سعيد قد ترك ما هنالك! -أو قال: قد ترك ما تعلم- قال أبو سعيد: والله! لما أعلم خير مما لا أعلم، فقال مروان: إن الناس كانوا لا يجلسون لنا، أي: إذا صلوا العيد خرجوا ولم يستمعوا الخطبة، فقدم الخطبة حتى يضمن جلوس الناس لاستماعها، والمهم أن أبا سعيد اتخذ هذا الموقف القوي من مروان.
وبعد ذلك تكرر الموقف مرة أخرى -والله أعلم- من مروان، فخرج في يوم عيد وذهب إلى المنبر، فقام له رجل يبدو أنه معتز بعشيرته وقوي منيع، ونهى مروان عن ذلك، وقال: الصلاة قبل الخطبة! فقال له مروان: قد ترك ما هنالك! فقام أبو سعيد وقال: أما هذا فقد قضى ما عليه -وهذه الرواية في صحيح مسلم- أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} .
وهذا النص كان وراء تصرفات عدد من العلماء العاملين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منهم محمد بن المنكدر رحمه الله، ذكر الإمام المالكي ابن أبي زيد القيرواني في كتاب الجامع، أن محمد بن المنكدر كان يخرج إلى السوق مع طلابه فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وقد أوذوا في ذلك من السلطان.
ومن أعجب المواقف ما ذكره أبو نعيم في الحلية، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن عالم يقال له أبو الحسن الزاهد وهي أشبه بالخيال كما أسلفت: أن أبا الحسن الزاهد عِلمَ بما يفعله حاكم مصر أحمد بن طولون من البطش بالرعية وقهرهم والتنكيل بهم؛ حتى إنه قتل -كما يقال- ثمانية عشر ألف إنسان صبراً، أي: بحبسه حتى يموت أو يحبسه ويرميه بشيء حتى يموت، فتبرم الناس منه وضاقوا ذرعاً بقهره واضطهاده لهم، فجاء إليه أبو الحسن وأمره ونهاه وأنكر عليه، فتميز هذا الطاغية غضباً عليه، وأمر بسجنه وأن يلقى إلى أسد جائع حتى يفتك به، فجيء بأسد قد جوع أياماً، ووضع أبو الحسن وهو أعزل في فناء أو ساحة وجيء بهذا الأسد الضخم العظيم الذي مجرد زئيره يقطع نياط القلوب، فكيف بمرآه وهو طليق؟! فكان هذا الأسد يزأر والناس ينظرون خائفين فزعين، أما أبو الحسن الذي يعنيه الأمر، فإنه كان جالسا مطرقاً كأن الأمر لا يعنيه من قريب أو بعيد، فما إن اقترب منه الأسد حتى تغير حاله، أي حال الأسد، وهدأ وأقعى على الأرض، ثم اقترب قليلاً قليلاً من هذا الإمام وبدأ يمسحه، ولم يصبه بأذى بل انصرف عنه! فوسط تهليل الناس وتكبيرهم جاء ابن طولون هذا الطاغية، وأخذ هذا العالم وأخذ يسأله: ماذا كان في قلبك؟ وماذا كنت تقول حين أقبل عليك الأسد؟ ربما تصور الناس أن هذا العالم عندما كان جالساً ساكناً أنه قد أصابته القشعريرة والرعدة وأصابه الخوف، فأعجزه عن القيام أو الفرار مثلاً أو أنه كان ساحراً أو مشعوذاً كما يلبس كثير من الجهال على بعض الناس، فلذلك سأله ابن طولون: ماذا كان في قلبك؟ وماذا كنت تقول؟ قال: ليس عليَّ منه بأس، إنما كنت أفكر هل لعاب الأسد طاهر أم نجس، أي هو مشغول بمسألة فقهية فرعية هل لعاب الأسد طاهر أم نجس؟! أما قضية الأسد وفتكه به فهو كان يثق بالله عز وجل، ويدري أنه موقف لله، والله يدافع عن الذين آمنوا، وقد حصل مثل هذا مواقف كثيرة لكثير من العلماء، حين كانوا يقفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مواقف شجاعة، كان الله تعالى يحفظهم ويرعاهم.
والأمثلة كثيرة منها: المنذر بن سعيد البلوطي العالم الأندلسي له مواقف شجاعة مشهورة، العز بن عبد السلام في الشام ثم في مصر له مواقف مشهورة، ابن تيمية رحمه الله له مواقف: منها أنه كان يخرج بتلاميذه إلى السوق فيكسرون أواني الخمور، ويكسرون آلات الغناء والطبول وغيرها، ويهرقون الخمور في الشوارع، ويؤدبون المعتدين، حتى إنهم خرجوا إلى جبل كسروان وأدبوا النصيرية وفرضوا عليهم أحكام الإسلام، وتعدى الأمر إلى أن هذا العالم حين جاء التتار إلى الشام خرج إلى حكام مصر وكانوا من المماليك، وخاطبهم بأسلوب عجيب كان يقول للحاكم: إن كنتم أعرضتم عن الشام وأهله، فإننا نجعل له من يحوطه ويحميه في زمن الخوف، ويستغله في زمن الأمن، أي نجعل للشام ولاةً وحكاماً يدافعون عنه في الشدة ويستفيدون منه في الرخاء، ثم قال: لهم لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه، ثم استنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وملوكه؟! وتلا عليهم القرآن الكريم، حتى خرجوا من مصر إلى الشام، والتقوا مع التتار، فنصرهم الله تعالى نصراً مؤزراً، كما هو معروف.
وليست هذه المواقف مقصورة على ذلك العصر حتى حين نأتي للعصور المتأخرة نجد مثلاً أمثال الشيخ العقاد وكان من علماء الشام، والشيخ عبد العزيز البدري كان من علماء العراق، لهم مواقف مع الطغاة مشهورة معروفة، ولعلماء نجد في ذلك القدح المعلى، فقد كان لهم مواقف مشهورة محمودة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المستوى الخاص وعلى المستوى العام، لكن في المقابل مع كثرة طلاب العلم والمنتسبين إليه والفقهاء، فإننا نجد كثيراً منهم قد آثروا السلامة، واشتغلوا إما بالعلم الذي لا تعلق له بواقع الحياة، وإما بأمور دنيوية من وظائف ومناصب يتنافسون فيها ويحرصون عليها ومن وقع في هذه الأشياء فإن لسانه يعقد عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والمجتمعات الإسلامية اليوم تتعرض لغزو خطير من أعداء الإسلام، يستهدف لا أقول بعض أحكام الإسلام بل يستهدف اجتثاث الإسلام من أصوله، عن طريق نشر الإلحاد والعلمانية والإباحية والفجور في الأمة كلها، فما أحوج الأمة إلى العلماء العاملين والدعاة المخلصين.