يروي الإمام مسلم في صحيحه [[أن الحجاج حين صلب عبد الله بن الزبير، وضعه على جذع في عقبة المدينة وهو موضع في مكة، وكانت تمر به قريش ويمر به الناس، فمر به عبد الله بن عمر -رضي الله عنه وأرضاه- فوقف عليه -أسيفاً حزيناً- فقال: السلام عليك يا أبا خبيب، السلام عليك يا أبا خبيب، السلام عليك يا أبا خبيب، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، ثم قال: أما والله إنك إن كنت ما علمتك إلا صواماً قواماً وصولاً للرحم، والله لأمة أنت أشرها لأمة خير.
ثم نفذ عبد الله بن عمر في طريقه، فسمع الحجاج بالخبر، فأمر بإنزال عبد الله بن الزبير من الجذع فأنزل وألقى به في مقابر اليهود، والحجاج طاغية آخر من الطغاة الذين حفل بهم التاريخ، فألقى هذا الصحابي الجليل الذي له من المآثر العظيمة، التي لا يتسع المجال لذكرها وهو أول مولود بعد الهجرة في المدينة، وأول ما وصل إلى بطنه هو ريق النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح، ومع ذلك يجرؤ هذا الرجل على أن يلقي به بين قبور اليهود، ثم يرسل هذا الطاغية رسولاً إلى أمه أسماء رضي الله عنها يرسل إليها رسولاً لتأتي إليه، فترفض أسماء وتقول: لا آتى إليه، وحين يأتيه الرسول، يقول له: ارجع إليها وقل لها لتأتيني أو لأبعثن إليكِ من يسحبك بقرونكِ، فتقول: لا والله لا آتيه، فليبعث إلي من يسحبني بقروني.
فلما رأى الحجاج صلابتها قال: أروني سبتيتي -أي أعطوني حذائي- فلبس نعاله وذهب إليها، فدخل عليها مغاضباً مستفزاً لها يقول: هل سرك ما صنعنا بعدو الله؟ وهو يعلم أنه ليس بعدو الله؟! وهو يعلم أنه ابنها الذي غذته بلبنها، وفرحت به صغيراً وربته كبيراً، ويعلم أن فقده عليها عزيز، ومع ذلك يقول: هل سرك ما صنعنا بعدو الله؟ -قالت: " أما والله إن كنت أفسدت عليه دنياه، فلقد أفسد عليك دينك" فانظر إلى حكمة هذه المرأة وقوة منطقها وغلبتها لمثل هذا الطاغية بالحجة والبيان، ثم قالت رضي الله عنها: بلغني أنك تقول له يا ابن ذات النطاقين -كأنه يعيره بهذا- وأنا ذات النطاقين، كان لي نطاقٌ فشققته نصفين، أحدهما أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعام أبي بكر على الدواب وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه -وكأنها تقول: فكيف تعيره بهذه الفضيلة والمحمدة، فيصبح الأمر كما قيل: إذا ما محاسني اللاتي أدل بها صارت عيوباً فقل لي كيف أعتذر ولقد سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه سيكون في ثقيف كذاب ومبير، فأما الكذاب فقد عرفناه -وتعنى بذلك والله أعلم المختار بن أبي عبيدة الثقفي الذي نسب إليه ادعاء النبوة- "وأما المبير" -ومعنى المبير: الذي يكثر القتل في الناس- فوالله ما أحسبه إلا أنت، فخرج الحجاج من عندها يجر ثوبه منكسراً ولم يرد عليها، بل إنه قال في بعض الروايات: جئنا لنعلمها فعلمتنا أو نحو ذلك]] فهو يشعر بأنه جاء ليوبخها فوبخته هي، وخرج من عندها بهذه الصورة! فهذه صورة امرأة فقدت ابنها فلم تتزعزع ولم تتزلزل، بل إن بعض الروايات تقول: إن ابن الزبير حين حصر بمكة جاء إلى أمه يقول لها: [[يا أماه أنت ترين الآن وقد حاصرني العدو، وقَلَّ من معي من الجند، ولا بد من الهزيمة، فما رأيك أن أستسلم لهم وأدع القتال، فقالت له: إن كنت إنما تقاتل في سبيل الله، فلا يسعك أن تتخلف عن القتال ما دامت روحك في جسدك، وإن كنت تقاتل في سبيل الدنيا فبئس العبد أنت، فقال لها: والله يا أم ما قلت ذلك إلا لأختبر صبرك فقد عرفت]] وفعلاً حققت هذه الأم من الصبر ما حققت.
أيها الإخوة: هذه صورة من صور القوة، تُطالب المرأة المسلمة اليوم بأن تجعلها نصب عينيها، وأن تدرك أن بإمكانها أن تقاوم الفساد والانحراف، وأن تقف في وجه المغريات الكثيرة التي تضج بها المجتمعات.
وهناك صور أخرى تعبر عن جوانب غير جانب القوة والصبر الذي سبق فمن ذلك جانب القيام بالمهمات، والأعمال الطبيعية التي أنيطت بالمرأة، فالمرأة خلقت لمهمات محددة واضحة، تتعلق بمشاركة الزوج في البيت وخدمته، ورعاية الأولاد، وبناء الأجيال، وما أشبه ذلك من الأعمال.
وانظروا إلى صورة أخرى، وهى صورة امرأة من أفاضل النساء، وكفاها فخراً وشرفاً أنها ابنة محمد صلى الله عليه وسلم، أفضل الأولين والآخرين.