حقيقة الغرب الدينية من الناحية العملية

أما من الناحية العملية، فإنني قد أعددت كلاماً لأقوله لكم عن البوسنة والهرسك، وبينما نحن في الطريق إذا بنا نسمع إذاعة لندن، وإذا بها تقول كلاماً يوجع القلب، ويستخرج الدموع بالقوة من الأعين، حتى القلوب الصلدة القاسية، لا بد أن تهتز وتضطرب.

يقول: إن الصرب الآن يحاصرون إحدى المدن الشرقية وذكرها، التي غالبية سكانها من المسلمين، وفر إليها سكان مدنٍ أخرى سوَّاها الصرب بالأرض، بدباباتهم ومدافعهم وطائراتهم؛ ففر السكان إلى تلك المدينة، وإذا بهم يفرون من معاناةٍ إلى معانة أخرى أشد منها.

ويقول: إن السكان الآن بلا طعام، ولا شراب، ولا مؤن، ولا أغذية، ولا أدوية، وإنهم يواجهون خطر الفناء التام، بعدما فر الكثير منهم، وبقي نحو مائة ألف في هذه المدينة، حتى إن الأطباء يجرون عمليات البتر للأعضاء، الأيدي والأرجل وغيرها، دون أن يستخدموا المخدرات أو المهدئات أو غير ذلك؛ لأنهم لا يجدونها، فيبترون ساق الإنسان أو يده للحاجة وهو ينظر ويتألم ويحزن.

!! ويقول: إن الصرب يضربونها الآن بشراسة، براجمات الصواريخ، والمدافع، والدبابات والرشاشات وغيرها، وإذا سقطت هذه المدينة كان الطريق أمامهم مفتوحاً تماماً إلى سراييفو، أي أن تتوجه كل قوات الصرب إلى العاصمة التي هي القلعة الأخيرة في هذه الدولة.

وأيضاً سمعنا خبراً آخر، يقول: إن فرنسا قد أجلت إرسال الطائرات المروحية والجنود الذين كانت تنوي أن ترسلهم يوم الأربعاء القادم، لأسبابٍ أمنية، وبناءً على طلب الأمم المتحدة، هنا يبرز دور بطرس غالي، الذي كان من المفروض أن يطلب التدخل أصبح يطلب منهم التريث، حتى يتمكن الصرب من اقتحام سراييفو وحشد كل قواتهم حولها.

الحروب كثيرة والاحتكاكات كثيرة، سواءً في الدول التي خرجت من عباءة الاتحاد السوفيتي، أو في البوسنة والهرسك والهجمات الصربية عليها كما ذكرت، وفي كل يومٍ منذ أربعة أشهر خبر تتقطع له القلوب أسى، فهذا راديو سراييفو يعلن أن جثث القتلى في الشوارع لا تجد من ينتشلها، ولا من يؤوي الفارين والمشردين، ويكفي الناس شر الجراثيم المتصاعدة منها، والروائح المنتنة.

وأخبار أخرى تقول: إن مدينة سراييفوا قد هدمت بالكامل، وإنه لا يوجد ولا حتى مبنىً واحد سلم من القصف المدفعي المتواصل.

وأخبار عن مدن على الحدود الشرقية بمحاذاة صربيا، على امتداد ما يزيد على ثلاثمائة كيلومتر قد دمرت بأكملها، وأبيد شعبها في مجازر وحشية تقشعر لهولها الأبدان، وأخبار عن احتلال مبنى التلفزيون، وقطع الاتصالات، ومنع الضحايا من أن ينقلوا إلى المستشفيات.

وأخبار عن إحاطة الصرب بسكان بعض المدن، وحصد أهلها بالرصاص في إحدى الساحات العامة، وأخبار عن كبار السن الذين لم يستطيعوا الهرب، يقولون: إنهم لم يعانوا خلال السنوات الأربع التي شاهدوها في الحرب العالمية الثانية، شيئاً يذكر، بالقياس إلى ما عانوه في هذه الثلاثة الأشهر الماضية.

وأخبار عن مدينة ذوبوي، وغالبية سكانها من المسلمين؛ أن الصرب يهددونها بالتسليم، وعندما رفضت انهالت عليهم الحمم من كل جانب، ثم قتل من قتل تحت الأنقاض، ومن هرب منهم سقط به الجسر الذي قصفه الصرب، حينما كان المسلمون يعبرون عليه، أما النازحون من المسلمين، فتقدرهم بعض الإحصائيات بأكثر من مليون ونصف.

والخطورة هنا تكمن في أن تغييراً كبيراً يحدث في التركيبة السكانية للمناطق، وهذا نائب رئيس وزراء البوسنة يصرح في تركيا؛ أن الصرب يقتلون المسلمين بالهوية ويلعبون برءوسهم كرة القدم.

لا تظنوا هذه مبالغات، لقد أحضر مجموعةً من الإخوة الذين ذهبوا إلى هناك، عشرات الأشرطة والصور، التي تؤكد أن ما يقال هو بعض الحقيقة وليس كلها، وقمة المأساة عندما فجر الصرب مكاناً يكتظ بأعدادٍ كبيرةٍ من المسلمين، كانوا ينتظرون دورهم لشراء الخبز، فأحالتهم قنابل الصرب إلى كتلةٍ من الدماء والأشلاء.

كل ذلك يجري على أنغام الموسيقى، والأناشيد الكنسية التي تحث الشباب الصربيين المنتسبين إلى صربيا الكبرى حماة المسيحية، على أن يحتفلوا ويرقصوا على أجساد الكفار، أي المسلمين، نشيدهم المفضل يقول: أنا أشرب دم التركي أولاً، فمن يشربه ثانياً.

وأما النشيد الثاني فيقول: وهي كلمة للزعيم الصربي يتناقلونها، وقد أصبحت نشيداً لهم: مستعدون أن نخسر ثلاثمائة ألف جندي؛ لإبادة الإسلام من سراييفو إلى مكة.

هذه هي المأساة، فماذا كان موقف الغرب؟ كان موقفهم عبارة تعاطف كلامي: يجب على الصرب أن يكفوا وإلا! يجب عليهم أن يحترموا القرارات الدولية! تهديد بالمقاطعة! حتى كادوا أن يقاطعوا صربيا رياضياً فيمنعوا فريقها من دخول المباراة، الله أكبر!! ويقولون -عندما تدخلوا فعلاً من أجل الإغاثة والإمدادات والمعونات الإنسانية، ثم صارت الحرب- قالوا: إذا لم تتوقف الحرب فسوف ننسحب!! ثم يقولون: لقد اكتشفنا أن كلا الفريقين يمتلكون الأسلحة.

والواقع أن المسلمين مساكين، في بلادهم في سراييفو العاصمة نفسها، ومع ذلك يستكثر عليهم أن يملكوا السلاح الذي يدافعون به عن أنفسهم، وهو سلاح بسيط وقليل، يشترى بالقرش والريال الذي يدفع من جيوبكم، أما الأسلحة الحقيقية فيمتلكها الجيش اليوغسلافي، وذهب غالبيتها إلى الصرب.

هذا تعاطف كلامي من الغرب، ومساعدات إنسانية محدودة، بعد ثلاثة أشهر كان المسلمون خلالها يعيشون في السراديب، تحت وابلٍ من القصف المتواصل، وهذه المساعدات، وهذا التعاطف الكلامي تراجعت عنه أوروبا، والتفت عليه حينما طالبت المسلمين في البوسنة والهرسك بإنشاء ثلاثة كانتونات، أي ثلاثة أجهزة أو ثلاث جهات.

للصرب كانتون خاص بهم أشبه ما يكون بالحكم الذاتي، لأنهم يمثلون (30%) من الجمهورية، وللكروات كانتون خاص بهم وهم يمثلون (18%) ، وللمسلمين وهم يمثلون نحو (44%) كانتون خاصٌ بهم.

إذاً طالبوا بوجود جمهوريات داخل الجمهورية الكبرى، واحدة للصرب وواحدة للكروات وواحدة للمسلمين، لكن أوروبا والغرب لم يطالب صربيا بذلك، مع أننا نعلم -مثلاً- أن مدينة كوسوفو الواقعة تحت حكم الصرب، فيها مليونا مسلم؟! مليونان لم يطالبوا لهم بالحكم الذاتي، وإن السنجق نصف مليون مسلم لم يطالب لهم بالحكم الذاتي.

إذاً: القضية حرب صليبية، الغرب إن لم يكن مؤيداً لها، فإنه ليس معارضاً لها، وهناك معلومات تسربت على أن رجال الأمم المتحدة يساعدون الجنود الصرب على نقل السلاح، ونحن نعلم يقيناً أن المسلمين لو كانوا نصارى؛ لكان للغرب موقف آخر، كما نعلم يقيناً أن المسلمين الذي يعيشون تحت الحصار الشديد الآن، في جبال الأكراد، أو في شمال العراق أو في جنوبه أو في وسطه، أنهم لو كانوا من النصارى لكان للغرب موقف آخر.

ولما رضي أن يعيش (18) مليوناً تحت آلام الفقر والجوع والحرمان؛ حتى أصبحت علبة البيبسى كولا -إن وجدت- تباع بما يزيد على مائة ريال، وأصبحت الدجاجة -إن وجدت أيضاً، ولا يجدها إلا الخاصة وكبار الأثرياء- تباع بما يعادل خمسمائة ريال، وأصبحت المرأة حتى الفتاة الحصينة العفيفة مضطرة أن تتاجر بعرضها، وانتشرت تجارة البغاء والرذيلة، لأنها تبحث عن اللقمة التي تسد جوعتها، وأصبح الإنسان الشريف مضطراً إلى أن يقفز في الليل على أحد البيوت؛ حتى يسرق منه طعاماً يأكله من الجوع.

بل وصل الحال إلى أن البعض يقتل أولاده -وحصل هذا فعلاً في العراق- لماذا؟! قال: لم أجد شيئاً أطعمهم إياه، لا أريد أن أراهم يتضورون أمامي جوعاً ثم يموتون.

فلو كان هذا الشعب نصرانياً، لتنادت أمم النصارى من المشرق والمغرب لرفع هذا الظلم الواقع عليه، وكانت تستطيع أن تنتقم من طاغية بغداد بغير هذا الأسلوب.

وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فماتت فدخلت بها النار} فما بالك بشعبٍ بأكمله يموت جوعاً وعطشاً، حتى إن الإحصائيات تقول: عدد الموتى يزيد على مائة وخمسين ألفاً خلال الشهور الماضية، وغالبيتهم من الأطفال.

المهم أن الغرب ينطلق من منطلق صليبي حاقد نظرياً وعملياً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015