إن سمات وخصائص هذه السيرة، بل مما يثير العجب فيها أن هذه النوعية -أعني بهم الصحابة جيل محمد صلى الله عليه وسلم ورجاله وأصحابه- قد استخرجها الله تعالى بهذا النبي من أوحال الكفر وظلمات الجاهلية، وأحياهم الله تعالى به بعد أن كانوا في عداد الموتى، لقد كانوا أمة في الحضيض في قيمها بل وفي تصوراتها وسلوكها، وسألمح لكم نماذجاً تكشف عن هذا الضياع وهذا الانحراف وهذا التيه الذي وجده محمد صلى الله عليه وسلم.
فبنو حنيفة حي من أحياء العرب، وقد روى ابن قتيبة في معارفه وهو يشير إلى ضحالة وإلى خرافة أديان العرب وإلى تفاهة ما كانوا عليه في المعتقد، يقول عن بني حنيفة: إنهم اتخذوا صنماً من حيس فعبدوه دهراً طويلاً ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه، فقال رجل من بني تميم يعيرهم بذلك: أكلت حنيفة ربها من جوع قديم ومن اعواج وقال آخر فيهم: أكلت حنيفة ربها زمن التقحم والمجاعة لم يحذروا من ربهم سوا العواقب والتباعة أما وفد سليم، وما أدراك ما وفد سليم؟! فقد روى ابن سعد في طبقاته خبراً عجيباً وهو يذكر وفادة سُلَيم، وجاء في الخبر أنه كان من ضمن الوفد رجل يسمى راشد بن عبد ربه وهذه تسمية من النبي صلى الله عليه وسلم أسلم الوفد وبات هذا الرجل وهو راشد بن عبد ربه يقص على النبي صلى الله عليه وسلم بعضاً من أخبارهم في بني سليم، ويقول: يا نبي الله كنت سادن صنمٍ لبني سليم، يعني: يحرسه ويحفظه وما إلى ذلك، يقول: فرأيت يوماً ثعلبين يبولان عليه، فقلت: أربٌّ يبول الثعلبان برأسه؟! لقد ذل من بالت عليه الثعالبُ يقول: ثم شددت عليه فكسرته، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره خبره، وقال: ما اسمك؟ قال: غاوي بن عبد العزى -وانظروا إلى الانتكاس حتى في الأسماء- اسمه غاوي بن عبد العزى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنت راشد بن عبد ربه، فأسلم وحسن إسلامه وشهد الفتوح، وقال فيه النبي: {خير بني سليم راشد} .