قدم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبشارة الأنبياء بها

ويعني هذا أن الله تبارك وتعالى أخذ على الأنبياء قبله أو هذه خاصية أخرى من خصائص محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته.

أن الله تعالى أخذ العهد على الأنبياء قبله لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، وطلب إليهم أن يأخذوا من أممهم العهد والميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه.

ذلك يعني أيها الإخوة تقدم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد يخيل لبعضنا أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تبدأ منذ أنزل عليه اقرأ وهو في مكة وعمره أربعون عاماً، والحق أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم سبقت هذا التاريخ بعدة قرون، يؤكد ذلك الحديث الصحيح الذي سأل فيه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: {منذ متى كنت نبياً يا رسول الله؟ قال: وآدم منجدل في طينته} وفي رواية: {وآدم بين الجسد والروح} حديث حسن.

بل إن الآية القرآنية في سورة آل عمران لتؤكد هذا العهد وتؤكد سابق نبوته صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81] .

لقد بشرت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما سمعتم، وآخر الأنبياء عيسى عليه السلام بشر به صراحة وقال: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6] وشهدت على صحة نبوته كتب السماء، واعترف أهل الكتاب بذلك، وسأسوق لكم نموذجين اثنين لتتأملوا كيف اعترف اليهود أو النصارى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

من هذه النصوص ما أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه ووافقه الذهبي، عن عوف بن مالك قال: {انطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود، فقال: أروني يا معشر يهود اثني عشر رجلاً يشهدون أن محمداً رسول الله يحط الله عنكم الغضب، فأُسكتوا، ثم أعاد عليهم فلم يجبه أحد، قال: فوالله لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا المصطفى آمنتم أو كذبتم، فلما كاد يخرج قال رجل: كما أنت يا محمد، أي رجل تعلمونني فيكم -وهو يشير إلى قومه من اليهود- قالوا: ما فينا أعلم منك! قال: فإني أشهد بالله أنه نبي الله الذي تجدونه في التوراة، فقالوا: كذبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل كذبتم، قال عوف: فخرجنا ونحن ثلاثة، وأنزلت: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف:10] } أما النص الآخر فهو عن كعب الأحبار، رواه ابن حجر في الإصابة، وقال: العباس لـ كعب [[ما منعك أن تسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر؟ قال: إن أبي كان كتب لي كتاباً من التوراة، فقال: اعمل بهذا وختم على سائر كتبه، وأخذ علي بحق الوالد على الولد ألا أفض الختم عنها، فلما رأيت ظهور الإسلام، قلت: لعل أبي غيب عني علمها ففتحتها، فإذا صفة محمد وأمته، فجئت الآن مسلماً]] وقد حسَّن ابن حجر إسناد هذه الرواية.

أيها الإخوة؛ ونص ثالث يؤكد فيه يهودي يحتضر أن محمداً يجدون صفته في كتبهم المنزلة، {وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى شاب يحتضر، وأبوه عند رأسه، وقد فتح التوراة يقرؤها عليه، فقال: يا هذا -أي اليهودي- أتجد في هذا الكتاب صفتي وصفة مخرجي؟ قال: لا، وأشار برأسه، وابنه كان في لحظات الموت الأخيرة، فرفع الابن رأسه، وقال: نعم! إنا نجد صفتك وصفة مخرجك في كتابنا هذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أقيلوا أخاكم عن اليهودي أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم} فتولى المسلمون دفنه؛ لأنه أصبح في عداد المسلمين إلى غير ذلكم.

وقصص عبد الله بن سلام وأمثاله من أحبار اليهود أو من رهبان النصارى تؤكد اعترافهم بهذا الدين وبوجوده في كتب الله المنزلة من التوراة والإنجيل قبل أن تدخلها أيدي التحريف والتضليل.

بل إن هذه الشهادات وهذه الاعترافات تترى حتى يومنا هذا، وهل أشد حقداً من المستشرقين على الإسلام، وهم الآخرون يعترفون بعظمة محمد صلى الله عليه وسلم وبنبوته لا على أنه رجل مصلح، وإنما على أنه نبي شملت رسالته العالمين، وارتاح الكون بهديها.

وأنقل لكم بعضاً من نصوصهم، فهذا أحدهم وهو تشيلل يقول: إن البشرية لتفتخر بانتساب كمحمد صلى الله عليه وسلم لها، إذ أنه رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوروبيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة، ويقول كارليل: ولولا ما وجدوا -يعني قومه أو المسلمون- فيه من آيات النبل والفضل لما خضعوا لإرادته ولما انقادوا لمشيئته، وفي ظني --والكلام لا يزال لـ كارليل - أنه لو وضع قيصر بتيجانه وصولجانه وسط هؤلاء القوم بدل هذا النبي، لما استطاع قيصر أن يجبرهم على طاعته كما استطاع هذا النبي في ثوبه المرقع، ثم ينهي كلامه قائلاً: هكذا تكون العظمة! وهكذا تكون البطولة! وهكذا تكون العبقرية! ويقول ويليام موير: لم يعهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس وأحيا الأخلاق ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير كما فعل محمد صلى الله عليه وسلم.

ويقول القس ميشون في كتابه سياحة دينية في الشرق: إنه لمن المحزن أن يتلقى المسيحيون عن المسلمين روح التسامح وفضائل حسن المعاملة وهما أقدس قواعد الرحمة والإحسان عند الشعوب والأمم.

أما المؤرخ الفرنسي جوزيف فيقول: بينما أهل أوروبا نائمون في ضلال الجهالة لا يرون الضوء إلا في سَم الخياط، إذ سطع نور قوي من جانب الأمة الإسلامية، وهو يشير إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته.

ويقول المؤرخ سيديو: وبعد ظهور محمد النبي صلى الله عليه وسلم رفعت أعلام التمدن في أقطار الأرض أيام كانت أوروبا مظلمة بجهالات أهلها.

أما غوستاف لوبون فيقول: إن العرب هم سبب انتشار المدنية في أوروبا ويا ليت قومي يعلمون! وأخيراً يقول الدكتور موريس: إن القرآن أفضل كتاب أخرجته العناية الأزلية لبني البشر، هذا على حد تعبيره.

أكتفي بهذه النصوص التي تؤكد اعتراف اللاحقين والسابقين بعظمة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنتقل بعد ذلك إلى أهداف دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كنا قد علمنا هذه العظمة، وهذا الشمول وهذه الخصائص؛ فما هي أهداف دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015