الأمر الثالث: إن المجتمع أيها الأحبة -وهذه قضية تشغلني كثيراً -وحين أقول المجتمع: أعني مجتمع الأمة الإسلامية في كل بلد، ليس في هذا البلد فقط، وإنما في كل بلاد العالم الإسلامي- المجتمع يستمع إلى أقوال متناقضة عن المتدينين، فهو يسمع من خصوم المتدينين -وبلفظ آخر يسمع من خصومنا حتى يُفهم أننا من ضمن المقصودين أيضاً- يسمع: أن المتدينين قوم جفاة غلاط جهلة، تفكيرهم مغلق، ثقافتهم ضحلة، أهل عقوق وبخس للحقوق، وأنهم أصحاب مطامع دنيوية، وأصحاب طموحات مادية، وأنهم لا يستطيعون تفهم أمور الحياة الدنيا، ولا يستطيعون التعايش مع الناس، وأنهم ضيقو الأفق غير مقدرين للمصالح والمفاسد، وأنهم وأنهم فيسمع هجاءً كثيراً، ويسمع كلاماً غزيراً في نقد الدعاة وسبهم وعيبهم بالحق وبالباطل؛ وليس هذا بغريب، فخصمك لا يمكن أن يقول فيك إلا هذا ومثله.
وبالمقابل يسمع الناس في المجتمعات الإسلامية من الشيوخ والدعاة ومحبي الشباب الملتزمين: أن الشباب الملتزمين وأن الدعاة إلى الله تعالى أهل تقوى وصلاح وخلق فاضل كريم، وأهل قلوب تقية نقية، وأهل نفوس سمحة، وأنهم أهل همم عالية، وعقول كبيرة، وتنازل عن حقوقهم، وإعراض عن متاع الحياة الدنيا وزينتها، ونجاح في سائر تخصصاتهم.
فمنهم الطبيب الماهر، ومنهم المهندس الحاذق، ومنهم الفقيه النبيل، ومنهم العالم الجليل، ومنهم المربي الفاضل، ومنهم الخطيب المفوه، ومنهم ومنهم وهكذا أيضاً قصيدة طويلة في الثناء على شباب الصحوة وعلى الدعاة إلى الله تعالى.
وأقول بملء فمي: إنهم يستحقون هذا وأكثر منه، وأنا ممن يتغزل -إن صح التعبير- بالثناء عليهم في مواضع كثيرة، وأعتبر هذه قربة أتقرب بها إلى الله تعالى وأحمد الله تعالى عليها.
فقد رزقني الله تعالى حب هؤلاء -علم الله- ولو لم أعرف أسماءهم ولم أعرف وجهاتهم، إلا أنني أقرأ في وجوههم محبة الله ورسوله، وحب الخير للناس، والغيرة على دين الله عز وجل.
فيجد الإنسان في نفسه محبتهم والحرص على مصلحتهم، لا حرصاً في عاجل الدنيا، ولكنه أمر وضعه الله تعالى في قلوبنا لا حيلة لنا في تحصيله كما لا حيلة لنا في دفعه.
ولكن أريد بعد ذلك أن أقول: إن من طبيعة الناس عموماً أنهم يحكمون على المجموع من خلال واحد، من خلال رؤيتهم لفعل شخص واحد قد يحكمون على المجموع، فيعممون الحكم من خلال حوادث فردية، فإذا ابُتلي -مثلاً- بعض الناس بداعية يكون بذيء اللسان أو رديء الخلق، فإن الناس لا يقولون: فلان رديء الخلق ولكن بقية الدعاة صالحون، بل يقولون: هؤلاء الدعاة فيهم وفيهم وفيهم، ثم يستشهدون بقول فلان والعكس بالعكس، فقد يكون هناك داعية صالح فتجد أن المجتمع المحيط به والبيئة القريبة منه تثني على الدعاة كلهم وتستشهد بفعل فلان.
وهذا أمر سمعته كثيراً فقد سمعت من يثني على الشباب الصالحين، فإذا قلت له: ماذا رأيت منهم؟ قال: ولدي فلان ولد صالح وهو يفعل كذا وكذا وكذا، ثم أثنى عليه خيراً.
وسمعت والله من ينال من الشباب الخيرين، ومن الدعاة إلى الله تعالى، ويصفهم بأبشع الأوصاف والألقاب، ويشتمهم، ويقول: إن الأشرار خير منهم، وما رأينا منهم خيراً، فإذا سألته وقلت له: لماذا؟ قال: فلان فذكر ولده أو جاره أو قريبه، وأنه فعل وفعل، وفعل ثم ذكر أشياء قد يكون بعضها حقاً، وقد يكون بعضها باطلاً، ولكن الواقع يشهد أن بعض هذا الكلام يكون حقاً في كثير من الأحيان.
إذاً أنت أيها الداعية! عبارة عن عينة للبقية من الدعاة، فإن أحسنت في تصرفاتك وأقوالك وأفعالك ومعاملتك للناس، ووصلت وتسللت بحسن تلطف إلى قلوبهم؛ فنعم الممثل أنت لنا! ونعم المعبر عنا! ونعم الناطق بلساننا! فأنت الرائد الذي لا يكذب أهله، وإن كانت الأخرى فلا حول ولا قوة إلا بالله! وهذا لا يعني أننا نطالب الدعاة ألا يدعوا إلى الله تعالى، وألا يقوموا بهذا الواجب إلا إذا كانوا مثالاً للأخلاق الفاضلة والكمالات لا! لكن يعني أن الإنسان ينبغي أن يحرص أشد الحرص على ذلك، ويبحث عن تحقيق وسائل هذه الدعوة بكل ما يستطيع.
وإذا علم أن هدف الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو إزالة المنكرات القائمة وإحلال المعروف بدلاً عنها، علم أن البحث عن دواعي القبول واجب وكما قيل: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ولهذا تكلم العلماء في هناك حالات يحرم فيها إنكار المنكر لماذا؟ لأنه لن يزول بالإنكار بل سيزيد، وتكلموا عن حالات يحرم فيها الأمر بالمعروف لماذا؟ لأنه لن يتحقق إذا أمرت به، بل سوف يزول معروف آخر كان موجوداً أو يتحقق منكر آخر، والمقصود هو زوال المنكر وحصول المعروف.
وكذلك المقصود في الدعوة هو تحقيق الخير ونشره، وإزالة الشر والنهي عنه، والرسل عليهم الصلاة والسلام إنما بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها، وتقليل المفاسد وتعطيلها.