النقطة الرابعة: مما يدعو لتناول هذا الموضوع أن طائفة من الدعاة نسيت كل هذه المعاني، وكل هذه الألوان من المجاهدات المشروعة والواجبة، وظنت أن الأمر يبدأ وينتهي في ميدان المعركة بالسلاح، وأن الحكم للسيف في كافة الظروف والأحوال، وهذا ليس بصحيح، وربما استشهد قائلهم بقول الشاعر: حينما تبدأ القنابل بالعزف تموت القصائد العصماء وقول الآخر: السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحدُّ بين الجد واللعب بيض الصفائح لاسود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب ونحو نقول: نَعَمْ! السيوف ينجلي بها الحق من الباطل في ميدان المعركة؛ لكن ميدان المعركة ليس هو ميدان القتال فقط، بل نحن في منازلة مع أعداء الله تعالى في كل الميادين.
ففي ميدان الاقتصاد منازلة بين دعاة الحق وبين دعاة الربا والكسب الحرام، وفي ميدان الأمور الاجتماعية منازلة بين دعاة الطهر والعفاف والفضيلة ودعاة الرذيلة والانحراف، وفي ميدان العلم منازلة بين دعاة الحق ودعاة الباطل، وفي ميدان الطب منازلة، وفي ميدان الإعلام منازلة، وفي كل ميدان من ميادين الحياة منازلة ومعركة ضارية حامية الوطيس، هي في حقيقتها -والله الذي لا إله غيره- أعظم وأشد وأكثر فتكاً من المعارك العسكرية.
ولكن أكثر الناس لا يدركونها؛ لأن الناس كثيراً ما يتكلمون عن حصول معركة في المكان الفلاني، والداوعي تتوفر على نقلها، لكن أقل الناس من يتكلمون عن الصراع بين الحق والباطل في هذه الميادين؛ لأنه صراع قد يكون مستتراً مستخفياً في كثير من الأحيان، لا يدركه إلا العاقلون العالمون المتابعون.
إن الجهاد -أيها الأحبة- بالسيف شريعة قائمة، ولا عز للإسلام إلا بالجهاد، ولكن هذا الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام له ألوان أخرى.
فالدعوة إلى الله تعالى شريعة أخرى قائمة، وحسن الخلق شريعة أخرى قائمة، وتأليف القلوب شريعة قائمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شريعة قائمة، والإحسان إلى الخلق شريعة قائمة، وسياسة الناس بالحسنى شريعة قائمة، فلماذا هذه النظرة الجزئية المختزلة؟! جوانب القضية -كما أسلفت لكم- كثيرة، وقد تحيرت كثيراً كيف أقدمها لكم، ثم اخترت أن أقدمها بشيء من الإيجاز والاختصار على أن تنتهي إن شاء الله في هذه الليلة.