لماذا يأمر عمر رضي الله عنه عبد الله بن عباس أن يذهب فينظر من قتله؟! إن الأمر عجب! إن عمر رضي الله عنه كان يسأل المسلمين من حوله، أعن ملأٍ منكم كان هذا الأمر؟ هل هي مؤامرة مشتركة منكم يا معاشر المسلمين عليَّ؟! قالوا: معاذ الله يا أمير المؤمنين، ما علمنا ولا سمعنا.
عمر وهو من هو في عدله وفضله، يخطر في باله أن يكون مسيئاً للمسلمين فسعوا للتخلص منه بهذه الطريقة، فيأمر ابن عباس أن يذهب لينظر من قتله، وجانبٌ آخر هو أنه كان يخشى أن يكون دمه في عنق أحد من المسلمين، فلما أخبره ابن عباس أن القاتل مجوسي، وأن قتله له لم يكن عن مواطأة، وأنه ما مر بملأٍ من المسلمين إلا وهم يبكون، حتى لكأنهم لم يصابوا بمصيبة قبل يومئذ؛ سُري عن عمر رضي الله عنه ودهش وفرح، ثم يقول عمر رضي الله عنه لـ ابن عباس: قد كنت أنت وأبوك تريدان أن تكثر العلوج في المدينة، وكنت أنهاكما عن ذلك، قال يا أمير المؤمنين، إن شئت الآن، أي أن نقتلهم الآن، قال: كذبت لا تستطيع ذلك بعد أن تكلموا بلسانكم، وشهدوا شهادتكم، ثم يخرج عمر رضي الله عنه وأرضاه إلى بيته، يخرج فيقعد في بيته، والمسلمون يبكون، ويدخل عليه النفر بعد النفر يشهدون له ويدعون له ويبكون بين يديه، ويدخل عليه غلامٌ أو شابٌ في بعض الروايات أنه ابن عباس فيقول: [[هنيئاً لك الشهادة يا أمير المؤمنين، صحبت رسول الله عليه وسلم، ثم هاجرت، ثم جاهدت معه، وكان لك قدم صدقٍ في الإسلام كما علمت، ثم نلت الشهادة، فقال: تشهد لي بهذا يـ ابن عباس قال: نعم، قال: الحمد لله، وددت أني خرجت منها كفافاً لا علي ولا لي]] يود أنه خرج من الدنيا أو من هذه الخلافة كفافاً لا عليه ولا له، وفي روايةٍ أنه كان يقول: [[لو أن لي قلاع الأرض -يعني ملء الأرض- لافتديت به من هول المطلع]] .
هذه الشخصيات التي صنعها الإسلام فعلاً، رجلٌ كل حياته في سبيل الله، بل ومماته في سبيل الله، وخطواته في سبيل الله وجهاده معروف، ثالث رجلٍ في الإسلام، ومع ذلك يبلغ به الخوف أن يقول: [[وددت أني خرجت منها لا علي ولا لي، لو أن لي قلاع الأرض لافتديت به من هول المطلع]] وما بالك بكثيرٍ من المسلمين اليوم! من طلبة العلم، ومن المتعبدين، ومن الدعاة، يفرح الواحد بعملٍ يسيرٍ فعله من عبادة، أو قيام ليلٍ، أو حفظ قرآنٍِ، أو دعوةٍ، أو عمل خير، حتى يخيل إليه أنه من أول من يدخل الجنة، ويتعاظم في نفسه، وربما نظر إلى غيره نظرة ازدراء واحتقار، بل ما بالك بالعامة من المسلمين وهم يثنون على أنفسهم في أحيانٍ كثيرة، ويحمدون الله على أنهم وعلى أنهم، دون أن يخطر في قلوبهم خاطر الخوف من الله عز وجل، أو أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون، كما قال الله عز وجل: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] فكان عمر يخشى من هول المطلع، ويتمنى أن يخرج منها كفافاً لا له ولا عليه.