تنازع الأمة وفشلها يبدأ بالتلاوم

أقول: أولاً: يجب أن نعرف دائماً أن الأمة أو الجماعة أو الطائفة من الناس، إذا أصيبت بالفشل، ومُنيت بالنكبة، فإنها تبتلى حينئذٍ بالتنازع والاختلاف والتلاوم، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:152] فأتبع ذكر الفشل بذكر التنازع؛ لأنه أثر من آثاره، فإذا فشلت المجموعة أو الأمة بدأ التنازع، ومن أسباب التنازع الاختلاف فيما بينهم في قدر المسئولية، فكل إنسان يلقي بالمسئولية على غيره، وهذا هو التلاوم.

ولو نظرنا في القرآن الكريم لوجدنا أن الله عز وجل ذكر التلاوم في كتابه فقال: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} [القلم:30] وانظر في القصة تجد فيها مصداق ما ذكر، فإن الله عز وجل قال: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِين * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} [القلم:17-31] .

فالمقصود أن أصحاب الجنة بعدما رأوا هذه الجنة، وما أصابها من الله عز وجل من احتراقها وذهاب ثمرتها، وبعدما نزلت بهم هذه المصيبة أقبل بعضهم على بعض يتلاومون، أي: يلوم بعضهم بعضاً، فكل إنسان يلقي باللائمة، ويحمل الخطأ الآخر، وهذا مما يستفاد من هذه الآيات، ومن هذه السورة، أن الأمة والطائفة في حال فشلها وتنازعها تبدأ بالتلاوم.

ولذلك إذا أتيت اليوم في هذا العصر إلى بعض العلماء المجاهدين المثابرين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعليم، والإخلاص، فحدثته عن بعض الأخطاء والانحرافات، تجد هذا العالم يلوم نفسه ويوبخها ويقرعها، ويقول: نحن مقصرون، ويجب أن نفعل، وسنفعل، ويحث غيره، فإذا أتيت إلى بعض القاعدين أو المقصرين قال لك: الواجب على أهل العلم، والواجب على الطلاب، والواجب والواجب، وصار كأنه يتبرأ من التبعة ويلقي بها على الآخرين، هذا هو الواقع اليوم في الأمة.

فأنت إذا نظرت إلى موقف الأمة من علمائها، وموقف العلماء وطلاب العلم من الأمة؛ وجدت الأمر فيه نوع من تبادل اللوم، فأما بالنسبة لطلاب العلم فكثير منهم يلقي باللائمة على العامة، ويقول: إنهم لا قيمة لهم، ولا يلتفون حول علمائهم وما أشبه ذلك، وينتظر منهم دوراً يقومون به في ذلك، وهذا بحد ذاته صحيح لا إشكال فيه، حتى إنني أذكر أن الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله وأسكننا وإياه فسيح الجنان عوتب مرة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بذلك، فتكلم بكلام قوي، ثم استشهد بقول الشاعر: ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت يعني لو أن الناس والمسلمين وأهل السنة كانوا ردءاً لعلمائهم لتكلموا وأمروا ونهوا، لكن تأخروا وتخلفوا فصار العالم يشعر أنه وحده في الميدان.

ثم حين تنظر إلى العامة تجد الأمر نفسه موجوداً، فكثير من عامة الناس حتى من سفهاء الأحلام والعقول، حتى من الفساق ومن سائر الناس ممن هم مستقيمون بصفة عامة، تجد كثيراً منهم يتلذذون بنهش أعراض العلماء، والوقوع فيهم، وأن هؤلاء العلماء شبعوا من الأموال، وامتلأت بطونهم، وأنهم لم يأمروا بمعروف ولا نهوا عن منكر، وأن فيهم وفيهم، وأن فيهم نفاقاً إلى آخر ما تسمعه من كثير من الناس.

فيحملون العلماء مسئوليات جسام، وكأن الأمر يبدأ منهم وينتهي إليهم، وكأن المتكلم من هؤلاء ليس عليه مسئولية، هذا فضلاً عن أنه لا يدري ما دور العلماء، وقد يكون من العلماء من يأمر وينهى في الخفاء، خاصة فيما يتعلق بأمر الناس الذين لهم مكانة، فإن هؤلاء غالباً الأنسب ألاَّ يعلم بأمرهم ونهيهم، بل يؤمروا وينهوا خفية لأن هذا أدعى للقبول.

فتجد كثيراً من عوام المسلمين ومن أهل السنة والجماعة يتكلمون في علمائهم بهذه الصورة، ومن هنا حصل التلاوم، فالعالم أو طالب العلم ينتظر من الناس أن يكون لهم دور، والناس ينتظرون من العلماء أن يكون لهم كل الدور لا بعضه، وهكذا تضيع الأمور بين هؤلاء وأولئك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015