الفائدة من ذكر هذه النماذج

هذه نماذج تدل على المكانة التي كان يتبوؤها علماء السلف في مجتمعهم، وموقف الناس من مثل هذه الأحداث الشهيرة، التي يذكرها المؤرخون في سير العلماء، وموقف الناس وطلاب العلم يتفاوت، فمن طلاب العلم من يعتبر هذه الأشياء مجرد طرائف، وأشياء يتلذذ بذكرها وسردها وتزيين المجالس بها، وهذا حالنا وحال كثير من الناس.

يكفي أن نذكر هذه القصص ونتلذذ بها ونهز الرءوس، وقد نعجب ونطرب لها، وهذا غاية الأمر! ومن الناس من يفكر بتطبيق هذه الأحداث والقصص بحذافيرها دون أن يتصور الظروف التي وقعت فيها هذه القصص، والشخصيات التي قامت بهذه الأعمال! فيقع في خطأ غير مناسب، ويكون أمر ونهى أمراً ونهياً في غير أوانه.

ولعلكم تذكرون أن أحد الطلاب والشباب وقف في يوم من الأيام أمام رجل كبير في إحدى الدول، وتكلم أمامه بكلام قوي، سمعناه جميعاً في حينه، وقال له: كيف تدّعون العلم والإيمان، وقد طرد فلان وشرد فلان، وحصل كذا، وحصل كذا فهذا الإنسان ربما يقرأ سيرة فلان وفلان من العلماء، فيطبق ما يسمع تطبيقاً حرفياً كما يقال، والواقع أنه يجب أن ننظر إلى الظروف التي وقعت فيها هذه القصص.

فمثلاً المنذر بن سعيد، أو العز بن عبد السلام، أو ابن تيمية ليسوا أناساً جاءوا من الشارع وفعلوا هذه المواقف، هذا خطأ أن تتصوره.

بل ابن تيمية، والمنذر بن سعيد، والعز بن عبد السلام، وجميع علماء الإسلام المشهورين كانوا متغلغلين في المجتمع، وكان لهم تأثير، ووقع ومكانه لدى الخاص والعام، بحيث أن مكانتهم لا يمكن أن يتجاهلها أحد.

ولذلك لما طلب العز بن عبد السلام من المماليك أن يبيعوا أنفسهم لأنه قال: أنتم أرقاء وعبيد ولا يمكن أن تحكموا المسلمين وأنتم كذلك، قالوا: فكيف نصنع؟ قال: لا بد أن تباعوا ويعلن عنكم في المزاد العلني، ثم إذا تم بيعكم فحينئذٍ لكم أن ترجعوا إلى مناصبكم، فحاولوا بكل وسيلة أن يثنوه عن هذا القرار فأصر، حتى إن منهم من حاول قتله فلما رآه سقط السيف من يده وبهت وتحير.

فطلبوا منه أن يخرج من بلاد مصر، فخرج العز بن عبد السلام في موكب ليس فيه هيلمان ولا أبهة، جاء بحمار ووضع عليه رحله، ووضع أثاثه في جانبي المزادة، وركب هو، وأركب زوجته وأطفاله ومضى، ولمارأى الناس هذا الموكب البسيط المتواضع خرجوا كلهم وراءه، حتى أتى آت للمماليك، وقال: إذا خرج هؤلاء فمن تحكمون في بلاد مصر؟! فطلبوا منه أن يرجع وأن ينفذوا له ما طلب.

والمقصود أن مما لا يختلف فيه -حتى لو فرض أن هناك مثلاً من لا يوافق على هذا الحدث والسياق- أن هؤلاء العلماء لم يكونوا نكرات مجهولين في واقعهم، بل كانوا منذ نعومة أظافرهم، منذ بداية طلبهم معروفين بالمشاركة في الحياة العامة، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالإصلاح، حتى بخدمة الناس في أمورهم الدنيوية.

واقرأ ما قاله ابن رجب الحنبلي في الطبقات، أو ما قاله الذهبي في ترجمة الإمام ابن تيمية، إنه كان منتصباً لخدمة الناس ليلاً ونهاراً بلسانه وقلمه، وحتى الظلم الدنيوي يحاول أن يدفعه عن الناس، كإنسان يحتاج إلى عمل، أو إلى مال، أو زواج، أو وظيفة، أو إنسان ظلم، فيحاول أن يدفع عنهم حتى المظالم الدنيوية.

واقرءوا كتب الشيخ تجدون كثيراً من الكتب كتبت في دفع المظالم عن الناس، لأنه كان مختلطاً بالناس مؤثراً فيهم، ولذلك كان يملك هو وأمثاله أن تكون له مواقف مؤثرة وشجاعة، فطالب العلم يسعى إلى أن يحقق من الاختلاط بالناس اختلاطاً واعياً مؤثراً؛ ما يجعله أهلاً لأن يكون قوياً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الوقت المناسب إن أعانه الله تبارك وتعالى على ذلك.

اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، اللهم أصلحنا ظاهراً وباطناً، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015