من المعايب الانشغال بدقيق العلم على حساب القضايا المهمة

وكثير من طلاب العلم في هذا العصر، بل ومن قبل يلامون ويذمون بضعف عبادتهم، وانشغالهم بكثير من المسائل الفقهية الدقيقة التي قد لا يحتاجون هم إليها، وقد لا يحتاجها الناس قروناً عديدة، وربما ضيع الواحد منهم عمره، وسافر، وجمع الكتب، وقرأ الأجزاء من أجل هذه المسألة.

وفي مقابل ذلك قد يخل بقضية من القضايا المهمة في حياته، ويذكر الإمام السبكي في كتاب معيد النعم أن بعض طلبة العلم المعرضين عن القيام بالواجبات الدينية، وسلوك طريق الآخرة يحتجون بحجج، فإذا قلت للواحد منهم مثلاً: قد حانت الصلاة، قام وصلى أربعاً لا يذكر الله -تعالى- فيها إلا قليلا، فإذا قلت له: هل تنفلت بعد صلاة الظهر؟ قال لك: إن الإمام الشافعي يرى أن الاشتغال بالعلم، أولى من الاشتغال بنوافل العبادات، وبناءً على ذلك ترك الراتبة ليشتغل بالعلم، فإذا سألته عن نسيانه للقرآن قال لك: إن نسيان القرآن لم يعده أحداً من أهل العلم كبيرة من كبائر الذنوب، إلا صاحب العدة أو العمدة وهما كتابان في فروع الفقه الشافعي، أحدهما لـ عبد الرحمن بن الحسين الطبري، والآخر لـ أبي بكر الشاشي.

وكذلك قال: أنا لم أنس القرآن كله فأنا أحفظ الفاتحة، ولعله أيضاً يحفظ معها قصار السور، ثم ما الدليل على أن هذا الأمر محرم؟ فتخلى عن حفظه للقرآن بهذه الحجج، فإذا سألته هل خشعت في صلاتك؟ قال لك: إن الخشوع في الصلاة ليس من شرائطها ولا من أركانها، وهكذا اتخذ هذا الإنسان ما يعلمه من بعض الأحكام مطية إلى التخلي عن كثير من الأشياء التي لا بد منها لطالب العلم.

ولذلك عقب السبكي رحمه الله على هذا بقوله: " وهذه كلمة حق أريد بها باطل " ثم استطرد الإمام السبكي في هذه المسألة، وذكر أن كثيراً من الطلاب قد يريد أن يقول في الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وهذه الكلمة فيها من التوكل، والإقبال على الله، وإفراده بالعبادة وبالاستعانة ما فيها، فربما يسبق إلى لسانه كلمة أخرى من كلمات الفروع الفقهية التي طالما اشتغل بها.

قال: وبلغنا أن الإمام الغزالي صلى يوماً بأخيه أحمد إماماً، وفي أثناء الصلاة انفرد أخوه عنه، وقطع الاقتداء به، وصلى لوحده، فلما سلم من الصلاة سأله الإمام الغزالي لم فعلت هذا؟ فقال: لأنك في صلاتك متلطخ بدم الحيض، ففكر الغزالي ساعة، ثم تذكر أنه في أثناء الصلاة قد عرضت له فعلاً مسألة من مسائل الحيض، وأنه فكر فيها شيئاً من الوقت وهو يصلي!! ونقول: أولاً هذه مستبعدة من جهة أخيه، لأنه لا يعلم ما في السرائر إلا الله عز وجل، وهاهو الغزالي نفسه لم يتذكر أنه كان يفكر في هذا الأمر إلا بعد أن أدار ذهنه فما بالك بغيره، فهذا بعيد جداً من هذه الناحية، وبعيد أيضاً من الناحية الفقهية، لأنه ليس من حق المأموم أن يقطع ائتمامه بالإمام إلا لضرورة، أما أن يقطع ائتمامه به لعارض غير صحيح فهذا لا يجوز، فضلاً عن أن يكون قد سبق إلى ذهنه أنه قد يكون فكر في أمر من هذه الأمور، وإنما سقت هذه الحادثة؛ لأن من المفيد أن يتعلم ويتدرب الطالب على أن يقرأ في هذه الكتب بوعي، ولا يأخذ كل ما يقرأ مأخذ القبول والتسليم.

وما يشكوه العلماء المتقدمون هو من الأسباب التي تقلل من تأثر الطالب بشيخه، فلو نظرت في العلماء الذين أثروا في تلاميذهم لوجدت أنه كان عندهم زهد ونسك وعباده، وإقبال على الله عز وجل، وقد ذكر ابن الجوزي في كتاب صيد الخاطر، بعد أن تحدث عن شيوخه الذين تلقى عنهم العلم، وعدد بعضهم، وأشار إلى أن بعضهم كانوا يشتغلون ببعض ما لا يسع العالم الاشتغال به، ذكر أن من أكثرهم أثراً عليه عالم يقال له عبد الوهاب الأنماطي، وقال: كان هذا العالم زاهداً مقبلاً على الله عز وجل معرضاً عن الدنيا، قال: وكنت اقرأ عليه أحاديث في الرقائق والوعظ فيبكي طويلاً حتى لا يستطيع أن يمنع نفسه من البكاء، قال: وكنت وأنا طفل صغير أتأثر حين أرى شيخي وهو يبكي خوفاً من الله عز وجل فتركت هذه أثرها في نفسي، وعلمت بعد أن التأثر بالحال أكثر من التأثر بالمقال، يعني: أن التأثر بالقدوة الحسنة، أكثر من التأثر بالنصيحة.

وهكذا غيره من العلماء كان تأثرهم بأشياخهم الذين صدقوا مع الله، ولم يكن تعلمهم ولا تعليمهم من أجل الدنيا.

والمطلوب من طالب العلم أن ينتبه إلى نفسه، ويحرص على إصلاحها، وعلى الحرص على التعبد وتليين قلبه بالقرب من الله عز وجل، وليس المعنى أننا نطالب كل واحد منا، أن يكون كعباد الصحابة كـ عبد الله بن عمرو بن العاص مثلاً، أو كعباد التابعين كـ الحسن البصري، أو كـ الفضيل بن عياض، أو كفلان وفلان ممن اشتهروا بالزهد والعبادة، وإن كان هذا المطلب نفيساً وعزيزاً، ويمكن أن يصل إليه الإنسان بالجد والاجتهاد، لكن هناك مستوى عام، ينبغي لكل طالب علم ألاَّ يرضى لنفسه أن ينزل عنه، وإذا انحط عنه فيجب عليه أن يعيد النظر في نفسه ويحاسبها، قبل أن يبغته الأجل وهو على حال لا ترضي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015