النصيحة الأولى: فإن الله تعالى بيَّن في كتابه أن هذا القرآن شِفاء، إذا وجدنا في جسد الإنسان مرضاً ذهبنا به إلى أطباء الأجساد، فعملوا له التحاليل اللازمة والدراسات حتى اكتشفوا سبب المرض، ثم صرفوا له الدواء المناسب، فإن العلاج كل العلاج لأمراض القلوب هو بهذا القرآن، فعلى الإنسان أن يوقن يقيناً لاشك فيه، أن هذا القرآن مُشتمل على ألوان العلاجات التي تحتاجها قلوب الناس، وأن القلب الذي لا يخشع لهذا القرآن، ولا يتأثر فيه، ولا يجد فيه طبه وشفاءه، هذا القلب على خطر عظيم، وإذا كان للأجساد أيضاً أمراض ينفض الأطباء أيديهم منها ويقولون: هذا مرض لا شفاء له ولا حيلة فيه، وصاحبه ميئوس منه، فالناجي منه مولود، والواقع فيه مفقود؛ فإن للقلوب أيضاً أمراضاً يُخشى أن تؤدي بأصحابها.
وعلامة ذلك المرض الخطير في القلب هو أن لا يتأثر بالقرآن ولا يخشع به، قال الله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:185] وقال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] .
وبين في مواضع أنه أنزل هذا القرآن شفاء، وفي موضع شفاء لما في الصدور، وفي موضع أنه يهدي للتي هي أقوم، إلى غير ذلك مما وصف الله تبارك وتعالى به كتابه، فينصح الجميع بالإقبال على هذا القرآن، تلاوةً وقراءةً، وتدبراً، وتخشعاً، وسماعاً، وفهماً، وحفظاً، وإدراكاً، واجتماعاً عليه؛ لعل الله تعالى أن يُلين قاسي القلوب بتكرار الآيات والمواعظ فيه.
وإذا تأملت أن هذا القرآن هو كلام الله جل وعلا، خالق هذه القلوب ومبدعها عرفت السر في تجاوب القلوب الحية أو القلوب التي لا زالت على الفطرة مع القرآن الكريم.
قرأت في بعض القصص، أن رجلاً من أهل العلم سافر قبل سنوات إلى بلدان من بلاد العالم على متن سفينة، وكان معهم مجموعة من المسلمين، ومجموعات أخرى من غير المسلمين، وكان اليوم جمعة فأرادوا أن يقيموا صلاة الجمعة على السفينة، فاجتمعوا وقام ذلك الرجل وهو قد يكون عالماً أو مفكراً أو داعية، المهم قام وصلى بهم وخطب خطبة الجمعة، وبعد الصلاة تفرق الناس، فجاءت إليه امرأة غربية نصرانية، وتكلمت معه برطانتها وهي لا تعرف اللغة العربية، فقالت له: " ماذا قُلت قبل قليل حينما كُنت تتكلم".
فقال لها: " إنه وعظ الناس وذكرهم وتكلم عن بعض المسائل وبعض الأمور التي تهم المسلم في دينه".
فقالت له: " أنا لا أعرف اللغة العربية ولا أدري ماذا قلت، ولكنني أحس أن بعض الكلام الذي تقوله يتعاطف معه قلبي، وأنني إذا سمعت كلامك أشعر بخفقان في صدري، وأشعر أن قلبي يكاد أن يطير، ولا أدري ما هذا الكلام الذي تقوله" فقال لها: إن هذا هو القرآن وإني استشهد بشيء من آياته أثناء خطبتي.
وفي القديم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه لما جاء المدينة في فداء أسارى بدر، سمع النبي صلى الله عليه وسلم وكان يصلي بأصحابه فيقرأ بهم سورة {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:1-2] فدخل المسجد وسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فأنصت له يقول جبير رضي الله عنه، وكان يومئذٍ مشركاً: [[فلما سمعت قول الله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ الآية)) [الطور:35-36] .
كاد قلبي أن يطير فوقع الإسلام في قلبي من يومئذٍ]] ثم هداه الله تعالى وأسلم.
وقد قرأت مقالاً لأحد العلماء يقول: " إنه كان يوماً ما جالساً في مجلس لهو ولعب وسمر مع بعض أصحابه وزملائه، وكانوا يتحدثون ويتضاحكون، يقول: فصمتوا لحظة واحدة، ثم جاءهم من بعيد صوت قارئ يقرأ شيئاً من القرآن الكريم، قول الله عز وجل: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:59-62] .
يقول: فكأن هذه الآية وقعت في أذني لأول مرة، وكأنه لم يخاطب بها غيري ولم أسمعها من قبل يقول: فأصابتني قشعريرة ورعشة في بدني ظلت معي أسابيع وأنا مضطربٌ مقشعرٌ، وفي أعصابي حال من الارتباك ما الله به عليم، من جراء تأثره بتلك الآيات".
وقد جاء في بعض الروايات أن المشركين لما سمعوا هذه الآيات أيضاً، وكانوا في مكة يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم يطاردونه ويطاردون أصحابه فسمعوا قوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:59-61] يعني: غافلون لا هون {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62] إنهم سجدوا عن آخرهم، وهم كانوا مشركين، إلا رجلاً منهم كان كبير السن لم يستطع أن يسجد فأخذ كفاً من تراب في كفه في يده ثم وضعه على جبهته وسجد عليه! فمن لم يعتبر بمواعظ القرآن فبأي مواعظ يعتبر؟! ومن لم يلن قلبه لكلام الله فكيف يلين قلبه لكلام الناس؟! ومن لم يخشع من هذا الذكر الحكيم فأي وعظ يمكن أن يخشعه أو يلين قاسي قلبه؟!