هذا فهم غير صحيح بلا شك؛ بل إن المسلم المتبع لمحمد صلى الله عليه وسلم، يشعر أن الغربة التي يجب أن يشعر بها في هذا الزمان وفي كل زمان، هي الغربة التي كان يشعر بها سيده ومتبوعه صلى الله عليه وسلم.
حيث كان يشعر بالغربة، التي تدعوه إلى دفع الغربة، وإلى الدعوة إلى الله، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فهذا الشعور، من شأنه أن يجعل المسلم: أولاً: معتزاً بالدين الذي ينتسب إليه، فلا يستوحش من كثرة المخالفين والمعاندين والفاسقين والمنافقين أبداً؛ لأنه يشعر أن الله عز وجل قد خصه من بينهم بهذه الخصيصة التي هي التميز عنهم بالتمسك بالدين، والعناية بالسنة، وطلب العلم الشرعي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو يشعر أنها موهبة وهبها الله عز وجل له، يجب أن يشكرها.
وثانياً: فإن هذا الشعور، لا يجعله يستسلم للقعود، ويخلد إلى الراحة، ويترك الدعوة إلى الله عز وجل، لا، بل يجعله يشعر، كما بدأ الإسلام غريباً، ثم زالت غربته بجهود الرسول صلى الله عليه وسلم، وجهود أصحابه، فإنه حين توجد غربته في بلد من البلدان، في زمن من الأزمان، يجب أن يقوم الغرباء حينئذٍ بجهود قوية قدر ما يستطيعون لدفع الغربة عن هذا الدين وإعادته عزيزاً قوياً، كما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أو قريباً من ذلك.
وهذا المعنى، هو الذي فهمه العلماء العاملون من هذا الحديث، وأضرب مثلاً بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه ذكر هذا الحديث، وقال: " إن كون الإسلام يعود غريباً، لا يعني جواز التخلي عنه والعياذ بالله فإنه حين بدأ غريباً، لم يكن غيره من الدين مقبولاً حينئذٍ، بل كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19] ".
فهذا المعنى في نظري، من المعاني التي تخفى على كثير من الناس، الذين قنعوا بسماع هذا الحديث، ورأوا في واقعهم كثيراً من المعاصي المشتهرة المنتشرة، التي يصعب -ولا أقول يستحيل- بل يصعب تغييرها وإنكارها، فاكتفوا بترديد هذا الحديث، ورأوا أنه إشارة إلى جواز السكوت والقعود.
وأقول: إن جواز السكوت والقعود مطلقاً، للأمة كلها وللغرباء كلهم في كل زمان وفي كل مكان إنما يجوز في حال واحدة، هي التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً ودنياً مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك، ودع أمر العامة} .
وهذه الحال، حال لا يمكن أن نقول إنها موجودة الآن في الأمة الإسلامية على الإطلاق، أبداً، لأننا نجد في هذا الزمان قبولاً للحق، وانقياداً له، واتباعاً للسنة، وإن كنا نجد نوعاً من الهوى، ونوعاً من إيثار الدنيا، ونوعاً من طاعة الشح، ولكن هذه الأشياء موجودة منذ أزمنة غابرة.
بل إننا نجد من كتب من العلماء المتقدمين كـ ابن بطال المغربي وابن حجر وغيرهما، أشاروا إلى بدايات هذه الأمور منذ زمن بعيد.
إذاً: يجب علينا أن ندرك أن الشعور بالغربة يجب أن يكون شعوراً دافعاً لنا، لدفع هذه الغربة وإزالتها.