معنى: صناعة الحياة

أما بعد: فربما كان هذا العنوان: "صناعة الحياة" غريباً بعض الشيء بالنسبة لكثير من الإخوة الذين قرءوا هذا العنوان، ولعل هذه الغرابة أن تزول وتنقشع حينما يستمعون إلى ثنايا هذا الموضوع وتضاعيفه.

وعلى كل حال وبكلمة موجزة مختصرة لا أسبق فيها الموضوع إلا أنني أقول: إن المقصود بهذا الموضوع -صناعة الحياة- هو بيان كيف يتمكن الداعية إلى الله عز وجل من التأثير في المجتمع الذي يعيش فيه، وكيف يتمكن من صياغة المجتمع الذي يحيط به صياغة إسلامية، وإن شئت فقل صناعته على وفق ما يحبه الله ويرضاه.

فالصناعة ليست هي فقط صناعة باليد أو حرفة، وإنما كل ما يمارسه الإنسان يمكن أن يعد صنعة أو عملاً يحتاج الإنسان إلى تعلمه والتدرب عليه وإتقانه؛ حتى يستطيع أن يحصل على ما يريد وأن يصل إلى ما يتمنى.

فالدعوة إلى الله تعالى صناعة، وهي ليست صناعة محصورة، إذا كان الصانع أو النجار يهتم بصناعة شيء معين من الأواني أو الفرش أو الستائر أو الكراسي أو غيرها، فإن الداعية إلى الله يحاول أن يصنع الحياة كلها على وفق ما يحبه الله تعالى ويرضاه، إذ إن الحياة كلها ينبغي أن تكون خاضعة لحكم الله ورسوله.

فالإسلام جاء مهيمناً على الحياة، مسيطراً عليها من ألفها إلى يائها، وليس ثمة شيء يمكن أن نقول: هذا ليس له علاقة بالدين أولا علاقة للدين به، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء بشريعة كاملة شاملة، ما فرط الله تبارك وتعالى فيها من شيء، وأنزل القرآن تبياناً لكل شيء وتفصيلاً لكل شيء، وما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم طائراً يطير بجناحيه -أو يقلب جناحيه في الهواء- إلا وبين لنا منه علماً.

وهذا العلم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم تتوارثه الأجيال لا يضيع منه شيء.

وقد كنا في صبيحة هذا اليوم نقرأ من صحيح البخاري: باب صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقرأ مثلاً حديث أنس رضي الله عنه أو حديث أبي جحيفة أو غيرهم من الصحابة، وكيف كانوا يصفون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعدون الشعرات البيض في رأسه ولحيته، وأنها لا تتجاوز العشرين شعرة، أو لاتصل إلى عشرين شعرة.

فالذين حفظوا كم شعرة بيضاء في رأسه ولحيته عليه الصلاة والسلام، حفظوا لنا كل هديه في كل شئون الحياة، حتى وهو مع زوجه في الفراش، حتى وهو في الخلاء، حتى كيف يغتسل، وكيف يقضي حاجته، علمهم صلى الله عليه وسلم كل شيء، فكان نعم المعلم وكانوا نعم المتعلمين.

هذه صناعة الحياة التي أتقنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتقنها أصحابه من بعده، وحق على الدعاة في كل مكان أن يتقنوا هذه الصناعة، وأن يعرفوا كيف ينتقلوا بالإسلام إلى واقع الحياة، وكيف يطوعوا كل أمور الدنيا لهذا الدين فلا يند شيء عن شريعة ربنا عز وجل.

وهذا الأمر الذي هو صناعة الحياة بالدعوة إلى الله تعالى، وبصياغتها على وفق ما يحب ويرضى، أمر لاشك أن فيه من الصعوبة ما فيه، وأنه يحتاج إلى طول نفس وإلى صبر ويحتاج إلى أناة، ولكنه هو الطريق الوحيد الذي لا طريق غيره، كما قيل: يا إخوتي درب الجنان طويل وبه المصاعب والمصائب جنة لكنما هو ليس عنه بديل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015