{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7] وهذا تأكيد للمعنى السابق، ولذلك قلت لكم: انتبهوا إلى هذا المعنى لأهميته، ولذلك يعاد مرة بعد أخرى.
فقوله: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أي الذين حازوا على الهداية التامة ممن: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] ثم قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فالمغضوب عليهم هم اليهود، والأولى أننا ما نقول: هم اليهود، لكن نقول: كاليهود، لأن الغضب هل هو محصور في اليهود؟ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [النساء:93] وفي الحديث في البخاري {من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان} {إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها بات الذي في السماء ساخطاً عليها} وفي قصة الثلاثة من بني إسرائيل: الأبرص والأقرع والأعمى، قال: {إن الله قد رضي عنك وسخط على صاحبيك} .
إذاً هل الغضب والسخط خاص باليهود؟ ليس خاصاً بهم، وإنما اليهودُ مجردُ مثالٍ للمغضوب عليهم، لكن القاعدة في المغضوب عليهم سواء كانوا اليهود أم غيرهم: لماذا غضب الله عليهم؟ لأنهم مهتدون أو ضالون؟ لأنهم ضالون لا شك، أي أنهم لم يهتدوا إلى الصراط المستقيم، وما سبب عدم هدايتهم؟ هل هو الجهل أم الهوى؟ الهوى، فاليهود معهم علم ولم يعملوا به، ولهذا قال بعض السلف: من ضل من علماء هذه الأمة ففيه شبه باليهود، لأنهم يعلمون ولكنهم يرتكبون الخطأ عمداً وإصراراً، فيتعوذ الإنسان من حالهم وطريقهم، فمن الهداية أن يكون عند الإنسان العزيمة والقوة على فعل الحق وترك الباطل.
وقدم -والله أعلم- المغضوب عليهم، فقال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} لسبب وهو أن أمرَهم أصعبُ وأشقُّ على النفس، بمعنى أن الإنسان إذا كان ضلاله بسبب الجهل كيف يرفع الضلال حينئذٍ؟ بالعلم، والتعليم وليس صعباً، أي: كون الإنسان مثلاً يصلي ولا يقول: "سبحان ربي الأعلى" في سجوده، هذا هل تحقق له كمال الهداية أولم يتحقق؟ لم يتحقق، كيف نستطيع أن نهديه -بإذن الله تعالى- في هذه المسألة؟ يكون بالتعليم، نقول له: إذا سجدت فقل: "سبحان ربي الأعلى" كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول، فتجد أن هذا الإنسان يقول: "جزاك الله خيراً! "، أنا جاهل وأحتاج أن أتعلم، ويدعو لك ويقبل منك، ثم يبدأ يعمل بهذا العلم، فدفع الجهل ورفعه يكون بالعلم، وهو أمر ميسور.
أما الإنسان إذا كان عالماً أصلاً ولكنه لا يعمل، فما هي الحيلة فيه؟ كل ما تريد أن تقوله له فهو موجود لديه، مثال: إنسان يدخن ولأنه يدخن صار معنياً بموضوع التدخين، يقرأ فيه ويتابع التقارير والأخبار، فتجد أنه يكون لديه ثقافةٌ ممتازةٌ عن التدخين وخَطَرِ التدخينِ ومحتويات هذه السيجارة، حتى إنه مستعد أن يلقي محاضرة قوية جداً عن التدخين، ولكنه ومع ذلك كله يدخن، فما هي الحيلة مع هذا الإنسان؟ هل ينفعه العلم ويرفع عنه ما هو فيه؟ لا.
لأن القضية بالنسبة له ليست علماً، ولكنها فقدان الإرادة والعزيمة على الفعل، فأخطر ما يكون هو هذا.
ولذلك جاء الوعيد الشديد في شأنه حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن أسامة بن زيد: {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان! مالك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! قال: بلى! -هذا الإنسان عالم أم غير عالم؟ عالم لأنه يعلم المعروف والمنكر، بل ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولكنه لا يعمل! ولهذا قال-: كنت أمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه} ولهذا كان بهذه المثابة من العذاب.
وكان من أخطر ألوان انحراف اليهود أنهم يعرفون الحق ثم يعرضون عنه ويلبسونه بالباطل، ولهذا قدم المغضوب عليهم على الضالين: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] والضالون: هم النصارى، والأولى أن يقال: كالنصارى، فيكون هذا مثالاً فقط، وإلا فالضلال ليس محصوراً في النصارى، فالله تعالى وصف ووسم بالضلال في كتابه أصنافاً من الخلق، وليس الأمر محصوراً بهم، ولكنهم هم أولى من يصلحون مثالاً للضلال، وما سبب ضلال النصارى؟ سبب ضلال النصارى هو الجهل هذا في الأصل، ولا يمنع أن يكون طرأ عليه في هذا الزمان مع الجهل العناد والإصرار بعدما زال الجهل عن بعضهم.
والمقصود أننا الآن أمام ثلاثة اتجاهات أو ثلاث طرق: الطريق الأول: الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهذا الطريق والصراط يقوم على ركنين: أولهما: العلم، والثاني: العمل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:33] وهما: العلم النافع والعمل الصالح، فهذا هو الصراط المستقيم.
الطريق الثاني: صراط المغضوب عليهم من اليهود وغيرهم، وصراط المغضوب عليهم اختل فيه ركن وهو العمل، فهم يعرفون الحق ولكنهم لا يعملون به.
والطريق الثالث: هو صراط الضالين أو طريق الضالين، وقد اخْتَلَّ فيه ركن وهو العلم، فهم قد يعملون ولكن بغير علم، ولهذا قال بعض السلف أيضاً: من ضلَّ من عُبَّاد هذه الأمة ففيه شبه من النصارى، كبعض الطرق الصوفية التي تعبد الله على جهل وضلالة ففيهم شبه من النصارى؛ لأنهم يعبدون الله ولكن على جهل وضلال، فهذا المعنى العظيم واردٌ في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] مع أن الإنسان مهتدٍ إلى الإسلام، ولكن مع ذلك يطلب مزيداً من الهداية، أي: مزيداً من العلم والعمل والتوفيق في كل حالة ومسألة تنزل به، ثم أعاده في قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فهؤلاء اختل عندهم ركن العمل وهؤلاء اختل عندهم ركن العلم.