أما الأنموذج الثاني فهو الإمام الحبر عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه وكان صغيراً في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أو ناهز الاحتلام فلما مات الرسول صلى الله عليه وسلم جاء ابن عباس -كما يروي الإمام أحمد بسندٍ صحيح في فضائل الصحابة- إلى رجل من الأنصار فقال له: [[إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبض فهلم فلنسأل أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حديثه فإنهم اليوم كثير، فقال له هذا الأنصاري: عجباً لك يا ابن عباس أتظن الناس يحتاجون إليك وعلى الأرض من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم هذا العدد الكثير! فتركه ابن عباس وظل يطلب العلم حتى إنه يقول: إنه ليبلغني الحديث عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فآتي إليه في بيته في القائلة فأجده قد نام فأكره أن أوقضه فأتوسد ردائي عند بابه فتهب الرياح فتسفي عليَّ من التراب، فإذا خرج الرجل إلى الصلاة؛ قال: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما الذي أتى بك؟ لو أخبرتني لأتيتك، فأقول له: لا أنت أحق أن يؤتى إليه! وإنه بلغني أن عندك حديث كذا فأحب أن أسمعه منك- وبهذه الطريقة حصل ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه على علمٍ كثير حتى احتاجوا إليه احتياجاً كثيراً وصاروا يتجمعون عليه ويسألونه- فيمر به هذا الأنصاري فيقول: يا ابن عباس أنت كنت أعقل مني]] مع أنه كان يومها صغيراً.
فهذا الرجل الذي سلك هذه الطريقة بالتعلم لما تلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم من الحث على التعليم، بل والدعاء له بالفقه في الدين بقوله صلى الله عليه وسلم: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} كما في الصحيح، هذا الرجل يصبح وهو شاب في مقتبل عمره يضالع المشايخ الكبار، فيحضره عمر رضي الله عنه وأرضاه في مجلسه مع كبار المهاجرين، فيقول له عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين أتحضر معنا هذا الفتى وفي أولادنا من هو في مثل سنه؟ فيقول لهم عمر رضي الله عنه وأرضاه ليثبت لهم دقة علمه بالرجال ومعرفته بخصائصهم: أرأيتم قول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] ما معنى هذه السورة؟ فظل الصحابة رضي الله عنهم يتكلمون في معناها دون أن يقعوا على السر الذي أراده عمر حتى إذا وصل الكلام إلى ابن عباس قال رضي الله عنه وأرضاه: [[إن هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعلمه الله إياه، فقال له: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3]] ] .
فهو إشارة إلى أن النصر والفتح قد جاء ودخل الناس في الدين فعلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكثر من التسبيح والاستغفار إشارة إلى قرب أجله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: [[والله ما أعلم من هذه السورة إلا ما تعلم]] وهذا الحديث رواه الترمذي وحسنه.
وهناك رواية أخرى عن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه دخل ابن عباس رضي الله عنه مع شيوخ المهاجرين فأراد يوماً من الأيام أن يختبرهم ويبين لهم قوة ابن عباس فقال لهم: [[أرأيتم قول النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر: التمسوها في العشر الأواخر، يعني: من رمضان أية ليلة هي ليلة القدر؟ فقال بعضهم: هي ليلة إحدى وعشرين، وقال بعضهم: هي ليلة ثلاث وعشرين واختلفوا، فقال: ما عندك يا ابن عباس؟ وكان عمر قال له: لا تتكلم حتى يتكلم أصحابك، فقال: إن أذنت لي يا أمير المؤمنين تكلمت، قال عمر إني لم أحضرك إلا وأنا أريدك أن تتكلم، فقال ابن عباس: أتكلم برأيي، قال: لك الذي تريد، فقال رضي الله عنه وأرضاه: إنني أراها ليلة سبع وعشرين، وذلك لأن الله عز وجل خلق السموات سبعاً وجعل الأراضين سبعاً وخلق الإنسان من سبع وجعل نبت الأرض سبعاً، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: قد عرفنا ما قلت إلا قولك: جعل نبت الأرض سبعاً ماذا تريد به؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه إن الله عز وجل قال: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس:27-31] فهذه سبعة أصنافٍ من نبت الأرض، فقال عمر رضي الله عنه: ألا قلتم مثلما قال هذا الفتى، والله ما أعلم منها إلا ما يعلم]] وهذه القصة رواها البيهقي والحاكم وابن خزيمة بسندٍ صحيح.